خالد الغيلاني
عندما تكون (الأنا) المتضامة حول نفسها غير (الآخر)... ماذا تعني تلك المفارقة؟... أين هي نقطة الالتقاء مع الآخر؟ ما هو المشترك فيه؟ وما هو المختلف عليه؟
لماذا هذه التضادات؟ ولماذا هذا النزوع المشتد نحو التفرد المزعوم والساكن في كل خلية بشرية حية ليتشكل منها واحديةٌ لاغبة في الحياة على مرأى مشاهد من تصرفات الخلق وتقلباتهم؟ فنجد مثلاً في العبارات الشعرية والنثرية التمادحية التي يتداولها الناس الشيء الكثير من هذا (كأوحد دهره) أو (فريد عصره) أو (العلامة الأوحد) ونحو ذلك كما قال شيخ المعرة:
فلو سمح الزمان بها لضنت
ولو سمحت لضن بها الزمان
هذه الضنائنية المغرقة في التوحد ما السر فيها؟... في ظني- وقد أخرج عن سياق النص على نحو ما، ولا مانع من ذلك - أنها دلالة ضمنية على قضية كبرى وهي التوحيد، فالواحد هاجس يسكن كل واحد منا وهو انسياب غيبي يختلجنا، ويحتل من أعماقنا مكانًا جذريًّا مهمًّا؛ فيوجه نزعاتنا ويدير أفكارنا ويلهم مسالكنا. فالواحد قصة سردية موجعة لكل شخص على هذه الأرض، بين طياتها وفي مضامينها وفي أوليتها حتى آخرها يظهر الواحد بكل تفاصيله، وكأنه يشير إلى الواحد الأعلى، ويبقى ما بقينا هذا التفرد مظهرًا مطلوبًا لكل أحد وهو قرين البداعة. فالمتفرد مبدع، ذلك أن الكون مظهر لتجليات الخالق، فالتسابيح للخالق المجيد المقدس مثلاً وحدوية المسلك، فعندما تكون الواحدية في أعلى درجاتها، فالتسابيح قضية مفروغ منها؛ لأنها التيار الحقيقي الصاعد في درجات العلا إليه، فكلما كان الشخص أقرب للفردانية كان أقرب للتسبيح، والتسبيح مظهر الواحد وليس التسبيح بمعناه اللفظي بل هو سلوك الخط المستقيم في كل التصرفات حتى يكون واحداً قولاً وفعلاً.
فقه النقد ومفهوم الوحدة
عندما يذكر فقه النقد أو مفهوم النقد يطرأ التساؤل الملح بشدة، لماذا لا تكون الآراء موحدة في قالب واحد ورؤية واحدة؟ هذا شيء وعندما يأتي الاستدراك أو الإضافة بعبارة النقد البناء أو الهادف هل هو لتقريب مسافة الاتفاق ومحاولة جدية للوحدة؟ فالمقصود هو النقد البنّاء الذي يسهم في تشكيل الوحدة الواحدة حتى تكون في نسق الواحد... هذه المناوشة الفكرية المحتدة أحياناً التي تصل إلى حد القطيعة، هل هي انقطاع عن الواحد؟ وهل الخطأ هو الوجه الآخر المحتمل للنقد؟ عندما تضل الفكرة في وجهتها للواحد، وعندما يأتي من يؤسس لمفاهيم النقد وأصوله،هل هو حقاً قد وصل للدرجة التي تخوله لإعطاء الأحكام وتقسيم الخلق وسن القوانين التي تحدد مواضع الأشياء في مكانها الصحيح؟
التسامي وفرضية امتلاك الحق
في اعتقادي أن الإجابة عن المسألة السابقة تكمن في أن كل إنسان يؤسس لقيمة معينة، لابد أن يمر بمرحلتين غاية في الأهمية. المرحلة الأولى: (مرحلة التسامي) أو التعالي عن الآخر والخروج عن مفهوم الجماعة (القطيع) نحو شرف مرتفع مع إلقاء صبغة العامة أو الدهماء على البقية الذين يحتاجون لبنية مؤسسة لطريقة عالية جداً يقعد لها، فهو يفترض فرادة في ذاته عندما يقوم بتأسيس نموذجٍ معينٍ للحياة. والمرحلة الثانية: (فرضية الوصول للحقيقة المطلقة) في قضية ما والاعتقاد بامتلاك الحق المطلق، مع أن مفهوم الحقيقة في الواقع مؤسس على محاولة إلصاق التفهم بقضية (ما) تفهماً من منطلق (الأنا) التي قامت فعلاً بوضع هذا الشخص المفكر في صورة المقدس المؤهل، من خلال هذه القدسية المزعومة ليسن بعدها فهماً متعالياً ينبغي أن يكون عليه الآخرون.
قداسة الدين أو قداسة الفكر
ربما يغيب عن كثير من الناس - خاصةً عند من يعاني الكتابة في شؤون الفكر وقضايا الحياة- أنه يرى أن التجرد أو الصفة العقلية هي شيء حتمي في كل ما يأتي، وأن كل ما يفعله لا يخضع لغير العقل المجرد المحكوم بالفطرة العقلية المؤيدة بالبرهنة القياسية، لكن الذي يخفى حقاً أنه عقل غير محدد تماماً أقرب للهلامية مهما ادعوا غير ذلك، فكثير من القضايا المتناولة يتم فهمها من خلال نظر محايث غير مستقر تماماً بل متردد ومتذبذب في نفسه، فهي في ظاهرها تبدو قضية منطقية، لكن عند التطبيق الواقعي من خلال القيام بإلحاق المتفق بالمتفق والمختلف بالمختلف تفتقد عامل الثبات والقبول، فتجدها تتسم بالخلط والتداخل مع ما فيها من تشوهات بليغة وهو نتاج ضروري لما هم عليه ولا بد لهم منه مع ما أسسوه من مناهج واقتفوه من سبيل، فخذ مثلاً مقارباً يتفق عليه جميع البشر وهو قضية الحدود، وهي قضية محسومة. فالحدود موجودة بين البشر فلا ينبغي أن يتعدى أحد على أحد، فهناك حد مضروب غير مشاهد يمنع من اقتحام خصوصية أو حقوق الآخرين حتى الأزواج لديهم حدود لابد منها وإلا سينتج عن إهمالها تلف في العلاقة الزوجية. وقد أشار ابن الجوزي لمغبة اقتحام تلك الحدود بينهما، فالحدود مطلب للسلامة العامة ونتيجة حقيقية للحضارة الإنسانية، فلا حضارة عظيمة بدون حدود، فهي تماماً كالحدود التي على الطريق تسلم من خلالها المجتمعات من كل معكر، وتكون القضية الأخلاقية حاكمة على كل شيء، حتى أن الإنسان مع نفسه لديه حدود؛ ولذلك قال القرآن (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) وفي الحديث (إن لنفسك عليك حقاً) فإذا فرطت في هذا الحق فقد اقتحمت حدوداً يحرم عليك اقتحامها وآذيتها أذىً بليغاً ولا ينبغي لك ذلك، فالحدود موجودة فعلاً ولكنك تجد البشر يتفقون على هذا القضية تماماً فيما بينهم، وينكرونها على الله، فلا يرون أن له حدوداً يحدها في ملكه لا ينبغي لمخلوق أن يتعداها، فهم يجردون الإله تجريداً كاملاً مما ينبغي له؛ ولذلك لك أن تقرأ في سورة الأنعام آية {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} سورة الأنعام (136) وقد تكون الآية صورت تصويراً يراه بعضهم أنه في نطاق قدم بالٍ ولكن صوره الحديثة موجودة وبكثرة، وما هذه الآيات إلا أمثلة يقاس عليها غيرها.
من هذا وغيره حصل اللبس فتجد هناك من يرى أنه عقلاني صرف ويقوم برمي المتدينين بأنهم محاطون بهالة من القداسة، ربما هم لفظيون إلى حدٍّ ما في تعبيراتهم عنها، ولكن الأمر نفسه تماماً عند من يمتهن حرفة الفكر، فهو يفترض قداسة في نفسه تؤهله لما يقوم به، ولذلك يقول من يقول:(الحمد لله الذي جعل مجدي في أفكاري لا أخباري). فالمجد درجة فيها رفعوية وقداسة حتمية، فلا قداسة لمبتذل، ومع هذا فالمتدين قد يكون توهمه لهذه القداسة مقبولاً، فالنص الذي يرتكز عليه مقدس في أصله مع أنه أخطأ في سحبه هذه القدسية من النص إلى نفسه، ولكنه يظل معذوراً مع جهله البليغ. أما المفكر فلا يعذر في هذه القدسية التي ادعاها لنفسه إلا كون العقل أعطاه هذه الخاصية، مع أنه لا عقل فيها ولكن توهمه جره إليه.