هياء الدكان
استوقفتني قصة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، مفاد القصة كيف يمكن لطفلة صغيرة، وطالبة متميزة نجيبة أن تفسد حفلاً لمدرسة؟ تقول المعلمة التي أشرفت على تجهيزات الحفل الختامي: لقد اجتهدتُ في اختيار فقرات حفل مدرستي الختامي، وبذلتُ جهدًا كبيرًا في تعليم الصغيرات وتدريبهن للحفل، حتى أتى اليوم الذي نقطف فيه الثمرات ونتوّج الصغيرات، ونختم الجهود بحفلٍ متنوعٍ، وفي أثناء الحفل حدث ما لم يكن بالحسبان, فقد بدأت الحفلة وبدأت الفقرات فإذا بطفلة تبتعد عن فريقها قليلاً بشكل حالم، ثم بدأت تزيد في الحركات وتنقص وتصفّق وترفع يديها وتخفضهما بحركات تختلف تمامًا عن حركات زميلاتها وكأنها لم تتدرَّب معهن. وتكمل المعلمة: لقد خشيتُ أن تتعثَّر الصغيرات في الأداء وينسين أدوراهن, وبالفعل لاحظت بعض التشتت من قبلهن، حيث بدأت بقية الطالبات ينظرن إلى زميلتهن التي تعبث وحدها، بل وبدأ بعضهن يضحك، وهنا بدأت الحاضرات أيضًا في الضحك.
الغريب أن أم الطفلة في قمة السعادة وتصفّق لابنتها بحرارة شديدة وكأنها تشجعها على الاستمرار في اختلافها عن زميلاتها، أما أنا - والكلام للمعلمة - ففي همّ وقلق حتى قمتُ من مكاني، وبدأتُ أقترب من الطفلة لأشدَّ عليها وألفت انتباهها؛ لتكون مثل زميلاتها في الفقرة، ولكن الطفلة في هذا الموقف بدأت تفرّ مني كلما اقتربتُ منها، وتكمل بنفس الطريقة الغريبة، تصرفات غير مفهومة, وأنا أنظرُ إليها وفي الوقت نفسه أنظرُ إلى مديرة المدرسة التي باتت أيضًا في قمة الحرج وتتصبَّب عرقًا، والأم في سعادة تبتهج فرحًا ولا تنظر سوى لابنتها.
دقائق وانتهت الفقرة فلحقتُ بصغيراتي وكل هدفي اللحاق بتلك الطفلة ذات الأداء الغريب، وما لبثتُ أن شدّدتُ على يديها لوحدها، ووقفتُ معها جانبًا، قائلة لها: لماذا كنتِ تعبثين في أثناء الفقرة؟ وغيرتِ الحركات التي تدربنا عليها معًا؟ هنا ردَّت الطفلة: لقد رأيتُ الحاضرات للحفل ورأيتُ الأمهات، وأمي بينهن وهي لا تسمع، فأمي (صماء) فكيف ستستمتع؟ فآثرتُ أن تكون كل كلمات فقرتي بلغة الإشارة العزف الذي أتواصل من خلاله معها في الحياة، لقد حاولت يا معلمتي أن أشاركها فرحة هذا اليوم وبهجة هذا الحضور بأن أطبق جميع ما تدربت عليه معك لكن بلغة الإشارة بوابة الحوار مع أمي، حتى تشعرُ بالفرحة والسعادة كباقي الأمهات، وتسعدُ معهن، وتفهمُ مقصدنا من الفقرة والحمد لله تحقَّق ذلك وهي سعيدة الآن.
الطفلة تحكي وتبرر وأنا تسابقني عبراتي، حاولتُ جاهدةً كتمان دموعي، والحمد لله تلاشت ظنوني في صغيرتي، فكما أنني كنت أفكر فقط في الحفل وفقراته بعيدًا عن أي بُعد إنساني، كذلك الصغيرة كانت تفكر تجاه أمها فلم تكن تفكر إلا بها، وتحقيق السعادة لها.
هنا قطعتُ التفكير واحتضنتُ صغيرتي فورًا، وقبَّلتُ جبينها ويديها الصغيرتين، وتمنّيتُ أنني انتبهت لهذا الأمر؛ لجعلتُ الطفلة بوضع مختلف على المسرح، حيث كان بالإمكان تكليفها مترجمة للغة الإشارة، وتقفُ بمكان بارز وقرب الطالبات ويكون الأمر مرتبًا.
الطفلة بارك الله فيها حلَّت يومها الموقف وأدَّت كل الأدوار بنجاح.
هذا موقف صغير ورد في القصة سواء صحَّت أو لم تصح، إلا أنها دعوة إلى التوقف والتأمل، وإعادة النظر والمراجعة لكل المواقف التي تمر بنا يوميًّا (الإيجابية أو السلبية)، وعدم التسرُّع وطرح سؤال عميق هل أحسنَّا في مواقف الحياة العابرة؟ هل أخذناها على محمل الخير والظن الحسن؟ هل أوسعنا دائرة الاختلاف والتعايش مع كل الفروقات والتباين في البشر؟ أو أسأت؟ آثار قد نتسبب بها ولا نعلم بنتائجها، وقد نرمّمها يومًا أو يرمّمها غيرنا، وقد يبقى ألمها وأثرها الممتد طوال العمر. إنها اللحظات، نحتاج أن نتوقف عندها، فقد تشغلنا الحياة وبهجتها وتسارعها وارتباطاتنا عنها عن التفاصيل السعيدة لكل الآخرين ولكل الأشخاص، هل هم سعداء؟، هل فكرنا أن من يتصرف أمامنا بشكل مختلف أو صوت مختلف، قد يكون لديه مبررٌ أو ظرفٌ لا نعلمه فلا نستعجل ردة الفعل أو الضحك في غير موضع لائق فنندم؟ هل تعلمنا كيف نصنع البهجة للجميع؟ ونحقق - بعون الله تعالى - سعادتهم، هل فكرنا في المكان الذي ندعو فيه ضيوفنا؟ وكيف سيُجهَّز لجميع الحاضرين؟ ويكون مناسبًا لجميع الفئات التي ستحضر أو المتوقع حضورهم، هل نظرنا في اللغة واخترنا أكثر من الطريقة لإيصالها للحضور؟، هل من مدعوّين من يحتاج لمكان مخصص، أو خدمة خاصة، أو ممر مختلف؟ أو مزالق مثلاً.. هل وهل وهل؟؟ وفي بداية كل أمر وقبل كل ذلك النظر حسب فئات الضيوف باستشارة مختصين مع الاستخارة، فمن استخار كان الله في طريقه ومن كان الله في طريقه وفق، وفقنا الله جميعًا.