هياء الدكان
(بنت الكرم) أو (بنت أبيها) كما كانت تُحب أن تُعرف بهذا اللقب، واشتهرت به بين بنات العائلة وأفرادها، وعند كل من يعرفها بالكرم، والحنان، والابتسامة، والقبول.
رأيتها ذات يوم في مناسبة وقد طرَّزت يمينها فستانها جملة: «بنت أبيها» لقبًا لها، وكأنه شعار وعلامة تجارية (براند) لاختياراتها وإبداعاتها في ملابسها وفق ذوقها الخاص، فسألتها هذا مِنْ صُنع مَنْ؟ قالت: من صُنع يديّ، وبما أحُب وأرى وأتصور حال تنفيذ العمل، فأنا بنت أبيها, حقيقةً فرحت فرحًا كبيرًا إنه من إبداعها ومن بصمة «بنت أبيها».
فمن هي (بنت أبيها)؟
(بنت أبيها) امرأة كتبت بطيب أخلاقها قصةً واقعية جميلةً وأصبحت مثالاً كريمًا يُحتذى، تتميز أنها لا تسمع بشيء له ارتباط بصلة الأرحام وعدم قطعها إلا وكانت من أوائل المشاركين والمنظمين والباذلين فيه جهدًا وفكرًا. كما أنها تمتاز بالمودة والصفات الحبيبة اللينة الهينة.
أتذكر عندما عرفت عن إقامة (دورية عائلية) لأهل أمها؛ ففورًا سارعت إلى المشاركة، وكانت من أوائلهم تفرغًا ومساندةً وعونًا لأهل البيت.
وقد كانت الدورية العائلية تُنفذ بإحدى طريقتين، الطريقة الأولى: عبارة عن اجتماع دوري في منازل العائلة كل شهر أو شهرين، والثانية: عن طريق حجز استراحة. والأغلب منازل اجتماع غير مكلف تحضره الكبيرات والصغيرات والأطفال، وكانت الشروط لصاحبة المكان، بحيث تجهز استقبالها عبارة عن مشروبات (شاي وقهوة وماء وتمر) فقط، والوجبات من الحاضرات، وأغلبها من البيت يتم التنسيق لها من خلال مجموعة العائلة بتطبيق للتواصل الاجتماعي تحت اسم «ريحة الحبايب»، واللباس كانت المسؤولة عن الدورية وصاحبة الفكرة قد وضعت طلباً الحضور بلباس بسيط، كما يتم استخدام أوانٍ بسيطة دون مبالغة؛ لأن الهدف أن تستمر الاجتماعات العائلية دون أن تحمل إحداهن أي هم لذلك أو تكلفة، وكل فترة تُكرم من تلتزم بالشروط.
بعد ذلك أصرَّت (بنت أبيها) أن يكون لهم نصيبٌ مباركٌ من هذا الاجتماع الطيب؛ فحجزت هي وأخواتها مكانًا أنيقًا وأبدعت فيه معهن وفقهن الله ومن ساندهن ووضعن عددًا من الأفكار منها سجل حضور للدورية مغلفًا بأقمشة من التراث الأنيق مازالت العائلة محتفظة به لتسجل به حضور الدوريات التالية - بإذن الله-.. كما أنها كانت الصوت المدلل بالمجموعة الافتراضية، حيث تدلِّل قريباتها وتمطرهن بالألقاب اللائقة والكُنى اللطيفة وتتودد لهن خلال يومهن، كما تنادي عليهن أيضًا بالمجموعة عن بُعد بكل خفة ظل ولطافة طبع معتادة منها أن صلين صلين أخواتي فقد أذّن المؤذن.
لم تكن تُحب الظهور ولا تصدُّر المجالس، وحتى في أماكن جلوسها تختار أقرب كرسي فارغ في الأطراف؛ لكن الطيِّب إلا ما يُعرف فيعرفه فعله، ويكفي أن يكون الشاهد الله على كل أعمالك وسكناتك. وقد كانت محبوبة أيضًا، صاحبة دعابة كأمها، رحمها ورحمنا الله.
(طرفة المحبوب) لم تعدّ بيننا اليوم, فقد رحلت قبل سنوات قليلة رحيلًا هادئًا وسريعًا لم يُحدث ضجة سوى في قلوب محبيها، الذين ما زالوا يشعرون بقربها وذكرياتها وبعض أوراقها ولمساتها، رحلت محبوبة بسيطة بلا وداع سوى وداع السيرة التي تركتها، جعل الله الملائكة تتباشر بها وقبرها ووالديها روضة من رياض الجنان.
رحلت «بنت أبيها» أمرٌ حقيقي؛ لكن فقط رحيل جسد، أما بصماتها وذكرياتها وما صنعت يداها، والتفاصيل التي كانت تزرعها في كل بيت؛ فقد بقيت حيّة نابضة بالذكرى والمواقف الراسخة والأثر الندىّ، بقيت ذكرياتها لدى كُل محب لها، وبقي حُبها لاجتماع العائلة وحبها لأخواتها وفرحتها بهم أبقاهم الله وبارك فيهم وعائلتهم الكريمة ومن أحبهم.
هذا الواقع الذي ستمر به كل نفس، والطريق الذي نمر فيه جميعًا ليس عابرًا؛ بل لحكمة وضعها الله سبحانه قد نعلمها وقد نجهلها؛ ليرى الأحسن عملًا، ومن وضع بصمته في هذا الطريق ليس لتتعب؛ بل لتعمل بالطيب وتغرس. ومن ضيع عُمره وعمله ونيته بقال وقيل، والضغينة والشحناء، واحتمال أمور فوق احتمالاتها؛ فما وكلنا الله بها، وما سألنا الله إلا عن أنفسنا أو علاقتنا مع الآخرين كيف كانت، ولن يسألنا عن صنيعهم فكلانا أمره لله وسيُسأل عن حاله، فمالك ومال الناس، سارع بعملك وطيّب حياتك وطيب علاقاتك.
رحلت طرفة بنت فهد المحبوب «بنت أبيها» القلب النقي، لتبقى سيرتها خالدةً، وتبقى تمشي على الأرض، جعلها الله مع الأنبياء والصديقين وخلَفها في عقبها الطيبين، وجعل ذريتها مباركين موفقين آمين.
عشْ حياتكَ اليوم وبما تستطيع، فأنت من يصنع محتواها.