د.عبدالله بن موسى الطاير
قدرتنا على تعريف الوعي محدودة، وللوعي حدود أيضاًص، وما نراه ونحكم به على وعي طرف آخر، غير فهم وتقدير أحدنا لوعيه. فكل منا يميل إلى تزكية وعيه، وأنه على درجة لا متناهية منه. الصورة النمطية للمجتمعات الصناعية أنها الأكثر وعياً، وأنها بذلك تخلصت من رواسب الماضي وأصبحت أكثر واقعية ويصعب أن تصدق بما لا تثبته التجربة العلمية، أي أنها منزهة عن تداول الخرافة ولا أحد يستطيع التلاعب بها بناءً على متخيلات لا تمت للواقع بصلة.
من يسمون أنفسهم مثقفين من الجيل الذي سبقنا كانوا يحملون إلى جانب الأقلام التي يمررون بها قناعاتهم مقامع لوأد أية فكرة تجافي ما يسعون إلى ترويجه، وكانت أحد المقامع هي الوصم بالمؤامرة لتحييد كل صوت مخالف. حتى ممارسة نقد الثقافة التي أريد لها أن تسود، كان يعامل على أنه ضرب من نظريات المؤامرة المعشعشة في أدمغة التخلف. وبعضنا استسلم مقتنعاً، أو خائفاً أو منافقاً، وأصبحت السباحة ضد التيار أحد التابوهات المحظورة، فسلك من يريد الكتابة والتعاطي مع الشأن العام الطريق السابرة في ركاب كبار المثقفين دون اعتراض على أجنداتهم.
اليوم يصعب على أحد من أولئك «التنويريين» أن يختص مجتمعاتنا العربية والإسلامية باعتناق نظرية المؤامرة وترويجها، فقد أبانت فرص التواصل التي لا تمر عبر بوابات النخب أن هناك حدوداً للوعي، تتشارك فيها بنسب مختلفة المجتمعات البشرية سواء في الدول الصناعية أو النامية.
أحد مهددات الاستقرار الخطيرة في الغرب الصناعي المتحضر هي تفشي نظرية المؤامرة التي تروج بين الناس خطورة الدولة العميقة، ومخططات أقصى اليسار في تغيير هوية المجتمعات الغربية، ومسيحية القارة، وتهديد الإسلام للهوية المسيحية. اقرأ الكتاب الأكثر مبيعاً الموسوم «الحرب على الغرب»، وأقارنه بتلك الكتب العربية والإسلامية التي تحذرنا من الغرب. الجانبان يجترحان الجدليات ذاتها، وفي كل مجتمع بشري يلجأ أقصى اليمين وأقصى اليسار للدفع بتهديد تآمري لوجوده ويعممه على أنه استهداف لأطياف المجتمع كافة.
قبل مدة كتبت عن الخرافة والمؤامرة التي لا يعلو على صوتها صوت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الأسبوع استمعت إلى عدد من الباحثين الأوروبيين يحذرون من خطر نظرية المؤامرة التي تغزوهم من وراء المحيط، ويعتبرونها أحد محركات التطرف ومن ثم الإرهاب.
جائحة كوفيد-19 تعتبر واحدة من الظواهر المختلف بشأنها، ولجأ الناس إلى التفسير التآمري لها بغض النظر عن طبيعة المجتمعات سواء أكانت صناعية أو متخلفة. كشفت دراسة حديثة أجرتها جامعة سويسرية ثلث المتحدثين بالألمانية في سويسرا والمناطق الحدودية الألمانية الذين شملتهم الدراسة يصدّقون ولو جزئيًا بإحدى الإشاعات أو نظريات المؤامرة ذات العلاقة بجائحة كوفيد - 19.
كما نرفض ربط الإرهاب بدين أو ثقافة أو عرق، فإن الحال ينسحب على نظرية المؤامرة، فهي عابرة للثقافات والأديان والأعراق، وهي في الوقت ذاته تكشف لنا حدود الوعي الذي لا يمكن أن يكون كاملاً في أي مجتمع سواء أكان صناعياً أو نامياً.
يُمايز عالم النفس الاجتماعي باسكال فاغنر بين ثلاثة عوامل وراء رواج نظرية المؤامرة؛ أولها: «العامل الاجتماعي السياسي، حيث يميل المناوئون للمؤسسات والنظام القائم، كالمتطرفين السياسيين، إلى إيجاد المبررات لأنفسهم عبر إطلاق الإشاعات والترويج لنظريات المؤامرة. مستفيدين من الظلم والتفاوت الاجتماعي، فقد أظهرت العديد من الأبحاث أنه كلما زاد التفاوت الاجتماعي في بلد ما، زادت خصوبة تربته لرواج نظريات المؤامرة التي هي غالباً ما تكون وليدة أحاديث النقمة لدى الفئات المحرومة»، وثانيها: «العامل النفسي، حيث إننا بطبيعتنا نفكر بطريقة ساذجة وغير علمية، خاصة في المواقف المقلقة كهجوم إرهابي أو جائحة صحية»، مضيفاً حسب مقابلة له مع SWI: «تظهر العديد من الدراسات أن تشوّه الطبع، كمثل هذا النمط من التفكير من أجل البقاء على الحياة، يُهيّج الإيمان السلبي، ليس فقط بالتآمر وإنما أيضاً بالخوارق، كتوهّم الأشباح والنوايا البشرية، كل هذا ورثناه من ماضينا كبشر»، أما العامل الثالث فهو: «الإنترنت، حيث لا يُمكن نشر هذه النظريات بسرعات فائقة فحسب، ولكن حيث لا يُنسى أي شيء. فعند البحث عن معلومات حول نظرية مؤامرة أو شائعة معيّنة، يُمكن للمرء أن يعثر بسهولة على نظريات وأقاويل أخرى مماثلة كانت منتشرة في الماضي، والتي يتم اكتشافها وتعود مجدداً إلى التداول ولولا شبكة الإنترنت لطواها النسيان».
في تصوري أن الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي تحديداً قد أنصفت المجتمعات النامية التي كانت توصف بالتخلف لأنها تفرط في التفسير التآمري للأحداث وتعد أمكنة خصبة لانتشار الشائعات. العقل البشري واحد، ولكن المدخلات من معلومات وتجارب تمايز بين مستويات الوعي الإنساني.