حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
كان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- يتسم بذكاء مفرط، وعبقرية فذة، وقد بُهر بذكائه وقدرته الفكرية رجال السياسية الغربيين ومنهم الرحالة والسياسي البريطاني جون فيلبي الذي رأى أن الملك عبدالعزيز (جندي ناجح، ومصلح أصيل تقى كمل التقى، صريح حازم، ذكي متواضع، ولا أعلم في العالم حاكماً غيره تتحدث معه رعيته بمثل الحرية التي تتحدث بها رعية عبدالعزيز معه)، والسياسي الأمريكي هـ. س آر مسترونغ، مؤلف كتاب (سيد الجزيرة العربية، عبدالعزيز آل سعود) 1934 الذي قال عنه (كان الملك عبدالعزيز سخى اليد، كبير القلب، يتمتع بصبر لا حدود له، وكان يعلم طريقة التعامل مع شيوخ القبائل، وكيف يشبع كبرياءهم، ويتجاهل نفسه، كان يتمتع بالخصائص التي يعجب بها العرب) ومن رجال السياسة والرحالة الأجانب المستشرق والمجري جوما نوس، والرحالة الإنجليزي كنت ويلمز، والسياسي الهندي جواهر لال نهرو، والطبيب البريطاني الذي يعمل في الإرسالية الأمريكية في البحرين والكويت الدكتور ستانلي ميليريا، والدكتور بول هاريسون من الإرسالية الأمريكية في البصرة والكويت والبحرين.
ويقول عنه يوسف ياسين وهو رجل سوري ومن مستشاري المؤسس ومن أوثق الناس عنده يقول في حديث له عن سمات الموحد -طيب الله ثراه- ما فحواه (نحن نعيش فكرياً....... بعبقرية عبدالعزيز....... فهو عبقري ملهم وذكي ومجرب ونحن من العاديين، وإذا رأيتم أحدنا وفق في مهمة....... فليس مرد ذلك إلى مزية فينا بل الفضل كله بعد الله إلى عبقرية عبدالعزيز نحن بوسطجية نحمل عبقريته ولا فضل لنا).
وأما حافظ وهبه أحد رجالات الموحد فيقول عنه (سمعت من بعض أصدقائه الكويتيين الذين عاصروا عبدالعزيز ورافقوه في طفولته أنه كان يفوقهم نشاطاً وذكاءً وأنه يتزعمهم دائماً، في الألعاب المألوفة لمن كان في سنة، وأنه كان يميل دائماً إلى سماع تاريخ الإمام فيصل ومغامراته من بعض الشيوخ المسنين بالكويت) ويروى الزركلي أنه أحسن استعمال البندقية وركوب الخيل كأحد الفرسان وهو في سن الصبابل إنه في سن السابعة كانت تبدو عليه صفات النشاط والحيوية والحركة الدائمة، وقيل: إنه غلب أول مبارز له وهو في سن الحادية عشرة من عمره.
ووصفه الأديب المصري العقاد بقوله: (كان الملك عبدالعزيز عنيداً مع الأقوياء متواضعاً مع الضعفاء، لكنه كان يسمع الرأي الآخر فإذا اقتنع به رجع إليه، لأنه أتخذ من الحق والشريعة إماماً وحكماً).
ويصفه د/ عبدالله بن صالح العثيمين بقوله: (وقد وهبه الله من الذكاء ما ساعده على النجاح، وتهيأ له من الظروف المحيطة بطفولته ما صقل مواهبة وأثرى تجاربه.......... واجتمعت صفاته الذاتية مع مكتسباته الحيوية الغنية لتبلور منه شخصية قيادية رائدة في مستقبل أيامه).
وروى خالد الفرج ما خلاصته: أراد الشيخ عيسى بن علي آل خليفه حاكم البحرين أن يلاطف الفتي عبدالعزيز فسأله: قطر أحسن أم البحرين؟ فأجابه عبدالعزيز على الفور: الرياض أحسن منهما، فقال عيسى سيكون لهذا الغلام شأن، وأضاف خالد إلى هذه القصة: سمعتها من الشيخ عيسى بنفسه، وهو يقصها في مجلس نزهته العصرية في بستان «ريا» في البحرين.
ونقل الزركلي عن محمد بن بلهيد القصة الآتية قال: في أثناء تغرب الإمام عبدالرحمن الفيصل عن الرياض جلس عشية يوم وحوله بعض خاصته، فجرى الحديث عن أبنائه فتكلم الحضور، وبينهم مانع بن جمعة العجمي، من رجالات العجمان لم يتكلم فقال له الإمام ما ترى يا مانع؟ فقال: إذا أراد الله عزاً للمسلمين، فهو على يد عبدالعزيز، قال عبدالرحمن وما يدريك؟
قال: رأيت فتيان الحيّ يتهيأون ليلعبوا لعبة (اللحى)، وقد انقسموا فريقين، فسمعت أكثرهم، ومنهم بعض أبنائك، يقول: من أنا معه؟ وسمعت عبدالعزيز يقول: من هو معي؟
والسؤال الآن: من هم عليهم شآبيب الرحمة والغفران الذين علموا الموحد وربوه ولقنوه ونشأوه، وجواب السؤال المطروح يندرج تحت القول التالي: أهم من علم الموحد - رحمه الله - والده وثلاث نسوه وهم يأتون تحت النسق التالي:
بادئ ذي بدء لا بد من الاعتراف بالكويت في صقل شخصية المؤسس، ورد في كتاب «مقاتل من الصحراء» ما نصه: (يرى أكثر من كتبوا عن الأمير عبدالعزيز أن الكويت كانت مدرسته التي تلقى فيها فن السياسة العملية، وأن أيام الشيخ مبارك المليئة بالمناورات والمحاورات كانت تنطبع مقدماتها ونتائجها في ذهن الأمير عبدالعزيز وقد اشترك في بعضها حين أنس فيه مبارك صفات الألمعي اللبق فقربه منه وأفسح له المجال لحضور مجالسه والاستماع إلى أحاديثه مع ممثلي الحكومات الإنجليزية والروسية والألمانية والتركية).
وقد توطدت علاقة المؤسس بالشيخ مبارك الصباح ولقي شطراً من تعليمه في الكويت حيث تعرف على الدواوين الكويتية، وصمم الموحد على استرداد ملكه حيث خرج من الكويت بقوة صغيرة قوامها (40) مقاتلاً وكما يقول الريحاني إن الشيخ مبارك قدم له: (أربعين ذلولاً وثلاثين بندقية ومئتى ريال وبعض الزاد).
الشخصية الأولى: والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود من أهم الشخصيات التي يرتكز عليها تعليم المؤسس وهو من علمه جوب الفيافي، وحياة الفروسية من ركوب الخيل، وامتطاء الإبل، والعزوف عن مقاعد الأطفال إلى محاكاة الرجال ومبارزة الأبطال، وتذكر كتب التراجم التي لها صلة بالحديث عنه، اهتمامه الشديد بتعليمه فكان يوقظه لصلاة الفجر، وعلمه الرياضة وأدبه بآداب آل سعود، وهو من علمه الهمة والعزة والبسالة في رفض قبول العرض العثماني في أثناء اجتماع المؤسس بمتصرف الدولة العثمانية في الأحساء (عاكف باشا)، والذي عرض على المؤسس تعيين والده الإمام عبدالرحمن حاكماً للرياض مقابل اعترافه بسيادة الدولة العثمانية، مقابل مال يدفع كل سنة، فرفض المؤسس الأشم الطلب وقال بعزة وثقة بالنفس: سنسترد الرياض.
وألمح خادم الحرمين الشريفين في كتابه الرائد: (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز) إلى دور الإمام عبدالرحمن في شخصية المؤسس، وحينما أعلنت البيعة له في مسجد الجامع الكبير في الرياض حاكماً على البلاد، نهض الوالد معلنا لابنه بالحكم لثقته فيه، فقبل الموحد مشترطاً جعل حق الرأي الأول في معالي الأمور المهمة لوالده الإمام، وقد علمه إقامه شعائر الإسلام، والحكم بما أنزل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمن السبل والمؤاخاة بين المتناحرين، ودمج الأمة على صعيد واحد بعد أن كانت أشلاء متفرقة، وعلمه أن الهدف من توسيع الملك لم يكن لأجل الحكم، وإنما للدين والشعب وخدمة المسلمين في كل مكان، كما لقنه البر والصلة والاحترام حيث عرف عن المؤسس - طيب الله ثراه - أنه لم يكن يمشي في غرفة علوية بينما والده - عليه الرحمة - في غرفة أسفل منها، ونقل عن الملك عبدالعزيز قوله: كيف أسمح لنفسي أو لغيري أن يسير فوق - رأس أبي؟ وكان يساعده على امتطاء صهوة جواده، فيرفع قدميه بنفسه مع وجود مرافقيه، وكان يحمله ويعينه على اكمال الطواف، وكان لا يقبل أن يطلق عليه لقب «الإمام» في حياة والده وكان يلقب بالسلطان ثم الملك حتى توفي الإمام عبدالرحمن سنة 1346هـ فأصبح يلقب بالإمام.
وقد علم الوالد ولده اسمى الفضائل، وأفضل الأخلاق، والتاريخ أصدق شاهد على هذا وعند جهينة الخبر اليقين.
الشخصية الثانية: والدته الأميرة سارة بنت أحمد بن محمد السديري من أهل بلدة الغاط في سدير بجوار الزلفي كانت صاحبة عقل وتدبير، ويروى لها شعر شعبي من الملحون أو النبطي وتوفيت في أواخر عام 1327هـ- 1910م في الرياض، وقد تزوجها والد الملك عبدالعزيز فأنجبت له فيصلاً وعبدالعزيز ومنيرة وهيا وسعداً، وقد كان لها دور بارز في تربيته وتنشئته وتعليمه- رحمها الله- وأشار المؤرخ العلامة (خير الدين الزركلي) في كتابه: (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز) أنها كانت من أكمل نساء زمانها عقلاً وتدبيراً، رغم أنها لم تتلق أي قدر من التعليم، وذكر مصطفى الحفناوي في كتابه (ابن سعود) أنها عرفت بالحكمة وتحمل الصعاب. فقد عاشت مع زوجها الإمام عبدالرحمن الفيصل أصعب الأيام لاسيّما حين خرج من الرياض، إلى استقراره في الكويت حتى استعادة المؤسس ملك آل سعود، وذكر أنه يجمع المؤرخون على أنها كانت من أوائل أولئك الذين زرعوا في الملك المؤسس ضرورة إعادة حكم آبائه، وهي كما ذكر إبراهيم عبده في كتابه (إنسان الجزيرة) أن من فضائلها ثباتها في المواقف التي عصفت بأسرتها بعد (موقعة المليداء)، وذكر بعض المؤرخين أنها التي من طلبت من زوجها الإمام عبدالرحمن السماح للمؤسس بتكرير محاولة دخول الرياض، وذكر الحفناوي أن الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه- حيث همَّ بالرحيل إلى استعادة ملكه ذهب ليودعها فجاش حنان الأم في صدرها فبكت بكاءً حاراً، وحاولت ثنائه عن قصده غير أن أخته نورة شدت من عزمه، وأوقدت عزيمته، وكما يذكر خير الدين الزركلي وفؤاد حمزة والحفناوي دورها في تنشئته بناء على كان يعترف المؤسس من دورها في حياته، ففروسيته وشجاعته وتوحيده للمملكة ونجاحاته وراءها امرأة عظيمة.
الشخصية الثالثة: عمته الأميرة الجوهرة بنت فيصل بن تركي آل سعود تنتمي الجوهرة من ناحية أمها إلى آل معمر فوالدتها الأميرة سارة بنت عبدالعزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر أحد أبرز علماء نجد في القرن الثالث عشر الهجري، حيث تزوجت من الإمام فيصل بعد عودته من مصر، وأنجبت له عدة أبناء ماتوا جميعاً ما عدا الجوهرة، وقد كانت على معرفة بالتاريخ والسير وحفظ القرآن الكريم، اضافة لذلك كان على استيعاب للسير النبوية والاستنباط من النواحي الفقهية، كما عنيت بوقف كتب التراث الديني، وأبرز مثال على هذا وقفها كتاب ابن قيم الجوزية: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)، وشهدت نزاع الملك بين أخوتها، وقد آلمها الضعف الذي حل ببيت آل سعود، فعملت على ايقاد روح العزيمة في نفس الموحد، ويتذكر -طيب الله ثراه- أن الجوهرة كانت الوحيدة من بين أفراد عائلته تعرف ما يعتمل في فؤاده المحمل بحب الرياض، وكان يصف مشاعره ودورها في شحذ همته فيقول:
(لقد كان تحبني فيما أعتقد أكثر مما كانت تحب أولادها أنفسهم، كانت تنفرد بي تضعني في حجرها وتنبئني بالأمور العظيمة التي كان على أن أحققها إذا ما كبرت، كانت تقول لي: عليك أن تحيي عظمة بيت ابن سعود)، وكان تردد على مسمعه أيضاً: (لا تكون عظمة بيت ابن سعود غاية مساعيك، إن عليك أن تجاهد لعظمة الإسلام إن قومك لفي أمس الحاجة إلى قائد يرشدهم إلى طريق النبي الكريم، وإنك أنت ستكون ذلك القائد).
وكان لكلامها، أثر عميق في نفسه، وقد نقل محمد أسد على لسان الملك عبدالعزيز قوله، (لقد بقيت كلمتها هذه ولا تزال في قلبي دائماً) ويبرز محمد جلال كشك دورها في نفسه بقوله: حملته عمته الرسالة، ولقنته وهو طفل مسؤولياته في إعادة ملك آل سعود وفي نشر الإسلام). وكان لها دور رائد في تعليم الملك وتلقينه وتنشئته والهاب إرادته، حيث كان الملك يصغي لنصحها في شؤونه، ثم اعتماده عليها في تعليم النساء وتثقيفهن داخل القصر، وكان يحرص على زيارتها، وهذه سنة حسنة للمؤسس مع كثرة الأشغال ووفرة الأعمال، وكانت تحب الخير حيث كان لها مسقاة ماء بجوار سور دخنة، وكانت من أشهر مساقي الرياض في ذلك الوقت.
الشخصية الرابعة: أخته الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود وهي التي كان لها دور ايجابي في حياة شقيقها المؤسس، فكانت موضع السر، ومأمن الاستشارة، كانت متعلمة في وقت ندر فيه التعليم بالحاضرة النجدية، وكانت رفيقة المؤسس عند خروج والدها من الرياض في أعقاب موقعة المليداء، وهي من كانت توقد عزيمته، وتعلمه الصبر وعدم اليأس، وكما مرّ بنا أن والدة المؤسس بكته بحرارة عند خروجه لاستعادة الرياض، وحاولت أن ثنيه عن قصده فدخلت عليه الأميرة نورة قائلة: (لا تندب حظك، إن خابت الأولى والثانية فسوف تظفر في الثالثة، ابحث عن أسباب فشلك فالرجال لم يخلقوا للراحة) ودخل عليها ذات مرة، وكانت تأكل تمراً، فناولته حبة تمر وقالت، متى نستعيد تمور الأحساء؟ فنفض المؤسس يده، وقد قوت هذه الكلمة الهمة والإرادة، وأذكت العزم والعزيمة في سبيل استرداد حقه وملكه. وكان ينتخى بها في الحرب قائلاً: (أنا أخو نورة) وفي حالة الغضب:
(أنا أخو الأنور المعزي) وكان الملك يزورها يومياً يجلس معها ساعات طوال، وعرفت بالصدقة والكرم وصب سبل الخير، وتميزت بقوة الشخصية ورباطة الجأش، وهي من علمته الصبر، والمحاولة في أخذ حقه، ووسمت ببعد النظر وحس سياسي عجيب، كما تمتعت بنفس شعري حيث قالت القصائد الشعبية الجميلة في زوجها الأمير سعود بن عبدالعزيز بن فيصل بن تركي الملقب بسعود الكبير، حيث كان زواجها منه من أعلى درجات الصلح بين الموحد وأبناء عمه، حيث أصبح سعود الكبير بعد زواجهما من المقربين والمخلصين للمؤسس، ومارست مهام السيدة الأولى، فحملت عن الملك مهام تدبير الأسرة المالكة، وكان يعود إليها في جوانب تخص شؤون القبائل، فيما يتعلق بالنساء اللاتي لهن صلات بشيوخ القبائل، كما لفتت أنظار كثير من الباحثين والمؤرخين من المستشرقين لا سيما من سمح له بمقابلتها والحديث معها، ففيوليت ديكسون قابلتها مع بعض نساء المؤسس وأعجبت بها أيما إعجاب ووسمتها بقولها: (من أكثر النساء اللاتي قابلتهن جاذبية ومرحاً) وأنها: (من أهم الشخصيات في الجزيرة العربية)، كما أبدت الأميرة للمؤرخة إعجابها بثوبها وحلق أذنيها مما ينم عن لين جانبها، وشديد تواضعها، وجون فيلبي قال عنها: (كانت السيدة في بلدها) في حين سجل ديفيد هاوارت انطباعه عنها بقوله: (أبدى ابن سعود اهتماماً ورعاية لأخته نورة طوال حياته)، وكان لديها عقلية متطورة، ونفس حضاري حيث روت فيوليت ديكسون أنها من خلال زيارتها رن جرس الهاتف، فردت إحدى خادماتها فقالت فيوليت إنها تزعج من الهاتف، فقالت الأميرة: (لا إنها رائعة لست أدري إذا كنا نستطيع البقاء دونها). وهي امرأة رائدة، وحسبك قول الواصفين لها، بأنها تحمل عقل أربعين رجلاً، وتوفيت عن 77 عاماً في عام 1950م.
-يتبع إن شاء الله-