في البدء لابد من الإشادة بالجهود المباركة والدائمة لتطوير المنظومة التشريعية بما ينعكس على مسيرة التنمية الوطنية بالتقدم والازدهار، وهي خطوات في رؤية مستقبلية شاملة وواضحة في ظل توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله يرسم معالمها ويشرف على تنفيذها صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ورعاه حيث تعمل الحكومة الرشيدة بقيادته رئيسًا لمجلس الوزراء في تنفيذ هذه الرؤية الحكيمة لبناء مجتمع جديد متطور ومواكب لأحدث النظم القانونية التي تعتبر الأساس للبناء والتحديث في ظل الشريعة الإسلامية ومصادرها الثابتة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وثانيًا أبارك لزملائي العاملين في ميدان الحقوق من قضاة ومحامين ومستشارين وأكاديميين وباحثين في مجال القانون أن أصبح لدينا قانون مدني متكامل يضاهي في تقدمه أحدث القوانين المدنية بل ويتفوق عليها جميعًا لأنه تقنين للأحكام الشرعية في المعاملات المدنية أي أنه ليس قانوناً وضعيًّا بحتًا من صياغة الإنسان ولكنه تقنين حديث يفصل المجمل ويوضح الغامض ويختار من الآراء أنسبها لواقع الحياة الاجتماعية وينهي الاجتهادات الفردية والتناقضات الناتجة عن البحث عن الحلول الملائمة بين الموسوعات والمراجع والكتب الفقهية التي تعتبر ثروة علمية يصعب على الفرد أن يجتهد في استنباط الحكم المناسب لكل حالة تعرض عليه، ولذا فإن الاجتهاد الرسمي لتوحيد المبادئ يحقق أهدافًا محددة ومقصودة لذاتها، منها حسم الخلافات الفقهية القديمة والجديدة باختيار ما يراه ولي الأمر مناسبًا وملائمًا، أيضًا يحقق توحيد الأحكام القضائية في الدعاوى القضائية المتماثلة والمتشابهة بحيث يكون النص القانوني أساسًا للحكم القضائي ومرجعًا للمتخاصمين ملزمًا لهم في علاقاتهم التعاقدية وملزمًا في الفصل بينهم قضائيًّا إن اختار أحدهم القضاء أو التحكيم أو الإصلاح بينهم وأخيرًا يكون النص القانوني مقياسًا للحكم على أحكام المحاكم الابتدائية أمام الاستئناف والمحكمة العليا.
أما في الميدان الأكاديمي فإن النظريات الأساسية القانونية تكون أيضًا في غاية الوضوح للأساتذة الجامعيين والطلاب والطالبات بحيث يكون الاستيعاب السليم لنظرية القانون ومصادره ونظرية الحق ومصادرها بحيث نبني جيلًا قانونيًّا مواكبًا للفهم القانوني العلمي والعملي وهي مرحلة لم تتأخر كما قد يرى البعض فهي مشروع تطوير وتحديث يحتاج إلى من يؤمن به ويتبناه ويدافع عنه ويضعه موضع التنفيذ ويزيل ما قد يظهر من عقبات في سبيل تنفيذه والالتزام به وهي مرحلة ولدت وأصبحت جزءًا من واقعنا مع العهد المبارك لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ورعاه.
إن صدور نظام المعاملات المدنية سوف يخلق فهمًا قانونيًّا سليمًا لطبيعة المعاملات المالية المدنية وخصائصها التي تميزها عن المعاملات التجارية والتي تنظرها المحاكم التجارية. وإن كان لي من اقتراح أظنه ليس غائبًا في هذه المرحلة وهو أن يتم تعديل مسمى المحكمة العامة إلى مسمى جديد يكون أكثر ملاءمة وهو (المحكمة المدنية) لأن مسمى المحكمة العامة وإن كان ملائمًا ومناسبًا في الماضي إلا أنه لم يعد ملائمًا بعد صدور نظام المعاملات المدنية فهي في الواقع محكمة مدنية وهذه التسمية من المناسب أن تشمل الدوائر الاستئنافية والعليا التي تختص بالمعاملات المدنية فقط.
ومن المتوقع من الأكاديميين والباحثين أن يشرعوا في شرح نظام المعاملات المدنية والتأليف في موضوعاته والبحث من خلال الرسائل الجامعية من ماجستير ودكتوراه لتغطية كامل مواده التي تم توزيعها على باب تمهيدي يتضمن الأحكام العامة ومنها ما يتعلق بالأشخاص والأموال والحقوق، ثم الكتاب الأول وهو خاص بالالتزامات أو الحقوق الشخصية، والكتاب الثاني وهو خاص بالعقود المسماة، وأخيرًا الكتاب الثالث وهو خاص بالحقوق العينية وقد تم بسط هذه الموضوعات في 762 مادة مصنفة على أحدث الترتيبات التشريعية المعتمدة في القوانين المدنية في الدول التي تعتمد القانون المكتوب ومنها الدول ذات النظام اللاتيني وكذلك الدول التي أخذت بمبدأ تقنين الأحكام الفقهية والتقنين وفق الشريعة والفقه الإسلامي.
ولأن نظام المعاملات المدنية هو العمود الفقري في أي منظومة تشريعات فإن تناوله يحتاج في الواقع إلى سلسلة متواصلة من التناول المستمر بما يتوافق مع صياغة المقالات الموجزة التي تعطي بعدًا معرفيًّا لا يغني عن قراءة النظام وما يمكن أن يتضمنه مستقبلًا من لوائح تنفيذية أو تفسيرية أو تأليف علمي من خلال الجامعات أو المعاهد أو مراكز الأبحاث العلمية. هذا يتطلب الكتابة في ضوء ما رسمه النظام من قواعد ومبادئ سوف أتناولها بإذن الله تعالى في مجموعة مقالات في محاولة لإلقاء الضوء على جملة الأحكام التي تضمنها النظام وبالله التوفيق.
** **
- د. أحمد العمري