الدراما التلفزيونية -كما هو معروف- ليست منتجًا فرديًا خالصًا، وإنما يتشارك فيها أفراد كثر: كاتب النص الأصلي إن كان عملًا أدبيًا، كاتب السيناريو والحوار الذي قد يكون المؤلف نفسه أو غيره، الممثلون، المخرج، طاقم العمل من مصورين وغيرهم. وتساندهم أدوات وتقنيات متنوعة، من: ديكور وإضاءة وصوت ومونتاج وملابس وأدوات زينة وتقنيات تصوير. كما تتحكم فيها عوامل كثيرة، ترتبط بجهات رسمية ترخص العمل، وجهات إعلامية تسوق له، ومحطات تلفزيونية تتفاوض على عرضه.
وتبدو ظاهرة (الأطباء الأدباء) ممتدة زمنيًا بين القديم والحديث، ومكانيًا بين الغرب والشرق، وأدبيًا بين الشعر والنثر، كما رصدتها دراسات متنوعة، ومعاجم مختلفة. ولم تبق هذه الظاهرة محصورة بين هذين الأفقين فحسب، بل امتدت إلى التجارب الدرامية السينمائية والتلفزيونية والمسرحية؛ طالما ارتكز بعضها على تجارب أدبية أخذت مكانتها من هذا الحضور الأولي، وقام بعضها الآخر على كتابة إبداعية تستهدف هذه التجارب الدرامية في تكوينها النصي، وتعتمد بناء السيناريو والحوار لها.
وإذا كانت تجارب (الأطباء الأدباء) الإبداعية لافتة للنظر على المستوى الإبداعي لكتابة النصوص الروائية، سواء تحولت بعد ذلك إلى أعمال مرئية أم لم تتحول؛ فإن تجربة المسلسل التلفزيوني (ملح وسمرة) للطبيب والأديب والكاتب الكويتي حمد الرومي ليست بعيدة عن هذه الهالة التي تلفت النظر، وتذهب بالعمل المكتوب إلى أبعاد دلالية وفنية متنوعة، لا سيما أن النص الممثل- على حد علمي- لم يكن عملًا روائيًا في أصله، ولم ينشر مسبقًا في كتاب، وإنما هو عمل قائم على حكاية بسيناريو وحوار من إعداد الكاتب نفسه، قُصد به الدراما التلفزيونية بخصوصيتها وجمالياتها ذات الأبعاد المختلفة.
وبالنظر إلى حضور الطب وعوالمه في المسلسل؛ فإذا كان الطب يتعامل مع واقع الإنسان والتجارب المرضية الجسدية والعقلية والنفسية؛ فإن الكتابة الإبداعية قد تشاركه هذه التجارب، لكنها تذهب بها بعيدًا نحو عوالم التخييل. كما أن العمل تميز في بعد آخر لا يخلو من لمحات علمية الطب نفسه؛ حين كشف عن العوالم النفسية العميقة للشخصيات بلا استثناء ولاسيما المريضة منها، من سلوكها الظاهر وحركاتها وعلاقاتها بالآخرين متأثرًا في ذلك كله بكاتبه (الطبيب الأديب).
وهذا الحضور الواضح للطب تمثل في معظم الشخصيات:
- هند (هدى حسين) الممرضة في مستوصف تحظى بتقدير أغلب العاملين فيه؛ لخبرتها الواسعة وإخلاصها في عملها، وإنسانيتها التي تتجانس مع هذه المهنة، ولا نعدم وجود من يكرهها ويكيد لها كما هو الحال في الأوساط والعلاقات الاجتماعية غالبًا؛ إذ لا تكاد تصفو لأحد، لديها كذلك مرض نفسي يتمثل في الخوف من المطر؛ لارتباطه بترسبات الطفولة.
- خليفة (عبدالله البلوشي) شاب يعاني إعاقة جسدية تظهر في حركات مضطربة، وعدم القدرة على التواصل اللفظي مع الآخرين بوضوح.
-غزيل (منيرة محمد) المصابة بالسرطان، التي فقدت شعرها نتيجة إصابتها به، وتخفت تحت شعر مستعار؛ لتخفي مرضها عن الآخرين.
-ريم (فرح المهدي) مصابة بمرض جلدي(البهاق) ومرض عصبي(الصرع).
-أحمد (عبدالله الطراوة) المصاب بالشلل بعد حادثة اعتداء ارتبطت بترسبات التنمر ضد السمر.
-عبدالسلام (مشاري المجيبل) الذي تعرض لحادثة اعتداء وإصابة في الرأس، لكنها لم تؤثر عليه.
-نورة (سحر حسين) المصابة بمرض مزمن(السكري).
-فؤاد (مشعل المجيبل) مصاب بمرض لم يُفصح عنه؛ بسبب تعدد علاقاته الجنسية.
-أنور الصغير (حسن اليوسفي) الذي تعرض لحالة نفسية مؤقتة جراء التحرش من زميل في المدرسة.
وهناك فهد الطبيب ومجموعة الممرضات ومنهن حنان، وأحداث تدور في المستشفى أو المستوصف، بما فيها من إصابات وحالات حرجة، ولحظات فقد.
ويأخذنا هذا الملمح الطبي العلمي إلى ملمح آخر فني؛ حيث ارتباط الغناء بالدراما أو ما يمكن أن نسميه (درامية الأغنية) إن صحت التسمية، وهو ليس جديدًا، بل ظهر منذ القدم موظفًا في المسرح القديم على سبيل المثال.
وإذا كنا قد اعتدنا على حضور الأغاني في(شارة) المسلسل بداية ونهاية، أو بوصفها مشاهد غنائية مستقلة يؤديها بعض المطربين الذين يخوضون تجربة التمثيل، وقد تنتشر بعدها وتحقق نجاحًا ملحوظًا، فإن (ملح وسمرة) تجاوز هذين المستويين في حضور الأغنية لتكون داعمة للقصة نفسها.
وما يمكن ملاحظته في هذا المسلسل، ارتكازه على أغنية الفنان الراحل عبدالكريم عبدالقادر( آه يا الأسمر يا زين) التي تشكل خطي البداية والنهاية، وترتبط بأحداث مهمة في العمل، وتتكرر في أكثر من مشهد درامي، كما تتخلل مشاهد أخرى على امتداد حلقات المسلسل، سواء أُديت مرتبطة بعوالم الغناء والسمر وما يتعلق بها من أداء حركي( الرقص) من جهة، مع ملاحظة أن من يمارسون هذا الأداء الحركي هم من فئة(السمر) الذين يطرح العمل قضية التمييز ضدهم والتنمر عليهم، وظهر هذا الأداء كذلك في محطة أخرى عادت فيها الذاكرة إلى الطفولة بمشهد يسترجع أحد مواقفها ذات الفعالية الراقصة في فيديو مرئي، أو جاءت مرتبطة بمشاهد أخرى تعبر عن تفاصيل القصة، أو حالات معينة تحيل إليها الكلمات من جهة ثانية؛ مما جعل لكلمات الأغنية أولًا ثم إيقاعها ثانيًا، الأثر الأكبر في طرح هذه القضية، وتلمس أبعادها الأخرى بمواقف معاكسة تشيد بجمال(السمر) وتستحضر تجربة الحب معهم، وما يرافقها من مشاعر سلبًا وإيجابًا.
هند، التي مثلت دورها القديرة (هدى حسين) إحدى السمراوات التي عاشت معاناة متكررة منذ الطفولة، مع صدمة تحرش القريب(الخال)، ومعاناة في شبابها مخدوعة بزوج(أنور) مثل دوره القدير (جمال الردهان) أحب امرأة أخرى، ولما لم يظفر بها؛ اختار أن يكمل حياته معها موهمًا إياها بحبه ، ثم حياة متألمة لاحقًا كشفت عن آثار التحرش والخداع، مع قضيتها الكبرى(العنصرية ضد السمر) وأحداث أخرى، كانت أثرًا للتجربتين، وإن امتدت إلى تجارب جديدة مع الأبناء ثم الأحفاد، والأقارب والجيران ومحيط العمل.
وكانت النهاية (المشهد الأخير) في خاتمة طقوسية تحت المطر على أنغام (آه يا الأسمر يا زين) إذ لم يعد المطر لحظات ترقب الخير والبركة والعطاء المتدفق بوظيفته المعتادة فحسب ولاسيما في ثقافة الصحراء التي تتعطش إليه، وتحن للحظاته، بل أصبح يعكس صورًا متنوعة لاستبطان الذات، والتفاعل مع الآخر، وحالات متفردة عانقت حدثًا طبيعيًا في أصله، لكنها تكشفت عن عشق روحي يستثير مشاعر كثيرة داخلنا، قد لا نعلم كنهها بالتحديد، لكنها أثرت وتأثرت به.
جاءت هذه النهاية الماطرة، لتعلن حالات استثنائية للأنثى:
(هند) واندماجها بالمطر وتغلبها على عقدة الخوف منه؛ لارتباطه بحادثة التحرش في الطفولة، ولتفصح هذه النهاية عن عودة الزوج ليساندها كما كان يفعل في مثل هذه اللحظات التي يدق فيها الخوف ناقوسه متزامنًا مع هطول المطر وصوت الرعد وومضات البرق، وكأن التعافي من عقد الماضي لم يكن إلا بتجاوزه والبدء بصفحات جديدة أجمل.
(نورة) التي تزوجت في سن متأخر، ورغم سعادتها بحملها إلا أن المخاوف التي تراودها حول مصير ابنها من زوج أجنبي جعلتها في لحظات تندم على الحمل رغم حرصها على الاحتفاظ به، وهي بدورها تتفاعل في ختام المسلسل مع هذه الحالة الطقوسية أيضًا؛ لتكون تحديًا لخوفها مرتين: من إجهاض الجنين، ثم من بقائه رغم ما يكتنف هذا البقاء من حرمانه من كثير من الامتيازات لمجرد أنه لا يحمل جنسية والدته(الكويتية).
ثم (غزيل) التي تخلع الشعر المستعار الذي كان يغطي رأسها؛ ليخفي أثر سرطان داهمها دون أن يعلم به الآخرون، معلنة التحرر من هذه العقدة ومتصالحة مع عهد جديد لعله يكون مبشرًا بالشفاء.
ويكون ختام المسلسل (شارة الحلقة الأخيرة) بهذه الأغنية للصوت الجريح والعرض المرئي لها كذلك، بعد أن طال الجرح فاقديه-رحمه الله-لتكون إهداء له ولهم.
ولعل أهم ما يلفت النظر في هذا العمل، الحوارات العفوية الجميلة وتلك العميقة الغنية بالحكمة، التي كانت من إبداع الكاتب، لكنها تزينت بأداء(هند) الجاد، وتلونت بروح الفكاهة مع(نورة)، وبحكمة الشخصية الذكية العميقة رغم نقصها الظاهري (خليفة)، وبألم الشخصية المغدورة (أحمد)، وعاطفة جياشة للشخصية الحنون(عبدالسلام)، وبقية الشخصيات، التي اتخذت كل واحدة منها مسارًا مختلفًا، وتلون منطوقها بطابع هذا المسار.
وبعد، مازال هذا العمل الرائع بتفاصيله الدقيقة والمعبرة، يطرح جوانب كثيرة يمكن أن تفتح الشهية للنقاش حوله، من أحاديث عفوية دارت في أيام عرضه، إلى كتابات لامست بحروفها أبرز محطاته، كما يفتح آفاق هذا التجانس بين العلم والفن والإبداع.
** **
- حصة المفرح