د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ترك لنا الأسلاف كمّاً غير يسير من تجاربهم في رحلاتهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة شرفهما الله، وما لا قوه في رحلاتهم من مصاعب جمة، ابتداءً من مشقة السفر إلى التعرض لأوضاع أمنية أشرفت بهم على الهلاك، وقد وجد بعضٌ منهم في دروبهم ما استوجب عليهم المشاركة في الاقتتال بين طائفتين متنازعتين مرغمين لا راغبين، وسواء ركبوا البحر، أو ساروا في الصحراء على الجمال، فإن قاصدي البيت الحرام، غالباً ما يتعرضون إلى بعض المفاجآت غير المتوقعة، كما سجل لنا بعض من ألف الكتب في هذا الفن قصصاً واجهها في حجه، أو انقلها عن غيره، ومثال على ذلك ما قرأناه عن قصة زين العابدين بن علي، والفرزدق، وعبدالملك بن مروان، أو ما كان من عمرو بن ربيعة وتشببه بالنساء القادمات إلى الحج، وقوله الشعر فيهن، وشكاياتهن إياه إلى الخليفة، ومنهم من أعطى تفصيلاً عن رحلته، وهم كثير مثل ابن جبير، وابن بطوطة، وصاحب كتاب رحلة حجازية، وغيرهم كثير جداً، ومازالت المكتبات في جميع أنحاء العالم تحتوي على مخطوطات، لم يتم تحقيقها، تنتظر من يوقظها من مرقدها، التي مازالت باقية فية منذ مئات السنين. وقد تعرض بعض الحجيج في أزمنة مضت، وعبر التاريخ إلى مآسٍ، ذهب ضحيتها عددٌ منهم، حتى استقرت الحال كما عشناه ونعيشه اليوم من توفر للخدمات يفوق الوصف، ولم يعد الحاج يحمل معه أمتعته، ولوازم رحلته ولم يعد يحمل سوى حقيبته الصغيرة، و إحرامه، ولا شيء غير ذلك، ولم يعد يأخذ منه الطريق سوى بضع ساعات، بعد أن كانت تأخذ سنين أو أشهر أو أياماً، حسب بعد المسافة، ووسيلة النقل، ومنهم من كان يأتي سيراً على الأقدام من بلادهم في الهند وغيرها، ويقطعون الفيافي والوديان، ويقال لهم الدراويش، وكان سكان الصحراء يعلمون بؤسهم، فيقدمون لهم العون، ومنهم من يبقى إما في مكة أو في المدينة، أو في إحدى القرى التي يمر بها، ومن الغريب أن بعضاً ممن يحن على هؤلاء الحجاج الفقراء، يعتدي على قوافل الحجاج التي يعتقد أن أصحابها أهل ثراء، وبحمد من الله لم يعد لهذه الحوادث وقوع ولا ذكر، بعد أن استتب الأمن، منذ قيام الدولة السعودية.
لم يكن غير البحر أو الجمل، مركباً، أو القدم سيراً، والبحر محفوف بمخاطر الغرق وسوء الأحوال الجوية والاعتداء، أما الجمل فهو الصبور القوي، فالمخاطر في الصحراء تقع على عاتق الأمن، أما الطبيعة والأحوال الجوية، فالجمل قاهرها، متحملاً الجوع والعطش، وعناء السير الطويل، وكان لترويضه في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، أثرٌ بالغٌ في تغيير نمط الحياة في البلاد الصحراوية، وتحول جزء من سكان الواحات المتناثرة حول الأودية، ومصادر المياة إلى بدو رحل يجوبون صحراءهم ومعهم زادهم، على ظهر تلك السفينة الصحراوية، باحثين عن منابت العشب، ومصادر الماء.
لقد سجل لنا المؤلف الأزرقي في كتابه الشهير أخبار مكة الكثير عن تاريخ مكة، وبداية عمارة البيت، وشعائر الحج وغيرها، لكنه قد حمل بعضاً من الأخبار الذي لابد من أن نتوقف عندها قبل أخذها كحقيقة مطلقة، فهو ينقل عن الإخباريين مثل الكلبي، ووهب بن منبت، وابن إسحاق، دون تمحيص للسند، أو المتن، وينسب تارة إلى ابن ساج، وحتى إلى بعض الصحابة والمحدثين مثل ابن عباس، أو التابعين مثل زين العابدين بن علي، أو الحسن البصري، وقد قال فيما قاله إن آدم هو أول من بنى الكعبة، في رواية الله أعلم بصحتها، نقلها لنا عن طلحة الحضرمي عن عطاء بن رباح عن ابن عباس، أنه قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنة، كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وهو مثل الفلك، من رعدتها، قال: فطأطأ الله عز وجل منه إلى ستين ذراعاً، فقال يارب مالي لا أسمع أصوات الملائكة، ولا أحسهم؟ قال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب، فابن لي بيتاً فطف به، واذكرني حوله، كمثل ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي : قال فأقبل آدم عليه السلام، يتخطأ، فطويت له الأرض، وقبضت له المفاوز، فصارت كل مفازة يمر بها خطوة، وقيض له كل ما كان من مخاض ماء، أو بحر فجعل له خطوة، ولم تقع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمراناً، وبركة، حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام)، وهو يذكر أن آثار الطوفان قد درست أي أذهبت أثر البيت الذي بناه آدم حتى بعث الله إبراهيم وإسماعيل فأقاما البيت، كما يذكر أن سفينة نوح قد طافت بالبيت قبل أن تزول معالمه.
وقدوم إبراهيم عليه السلام، ومعه ابنه إسماعيل، وبناؤها البيوت معلوم، ومؤكد، كما نص عليه القرآن الكريم، أما ما ذكره الأزرقي، من أقوال قبل ذلك فالله أعلم بصحتها، و لا شك أن صفة الطواف والسعي التى يقوم بها الحجاج والمعتمرون، هي تلك الصفة والنهج الذي كان يقوم به أبونا إسماعيل عليه السلام، وما قبل مبعث النبي صلى الله عليه سلم منذ إسماعيل عليه السلام، كان الناس يطوفون بالبيت، لكنهم أدخلوا عليه ما ليس منه، فوجهوا العبادة إلى غير الله، وعلقوا الأصنام على الكعبة وحولها، وابتدعوا بدعاً على مر الزمان، مثل الطواف عريان، وأدخلوا شعائر لم تكن مما فعلها أبونا إبراهيم وأبونا إسماعيل عليهما السلام إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، برسالة ربه فاهتدى الناس إلى الحق، وعبادة الله رب الخلق، وأعاد صفات الطواف والحج إلى ما كانت عليه من الصواب، وظلت باقية إلى زماننا هذا.