إبراهيم بن سعد الحقيل
منذ أن نشر العلامة حمد الجاسر (ت 1421هـ) هذا الكتاب أول مرة سنة (1389هـ) ومال إلى نسبته إلى العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي الحنظلي (ت 285هـ) والشك يزداد يوماً بعد يوم في صحة هذا الميل. والباحثون في هذا الأمر كالأعمى الذي يتلمس طريقه، فإذا أمسك بشيء خمن ما هو ولم يك جازماً بصحة تخمينه. ومرد هذا إن الكتاب وصلنا مخطوطاً مخروماً غُفلاً من مؤلفه.
والكتاب على أهميته الكبيرة؛ سواء في مادته الثرية، أو تقَدُّم زمن مصنفه فإنه وصلنا منقوصاً مجهول المؤلف، فلا بدّ من نشره دون النظر إلى مصنفه، فيكفينا أنه أتَمّ كتاب وصلنا عن طرق الحج، وأن مصنفه كان في مكة سنة (274هـ).
بقي الأمر على ما هو من التشكك والميل، حتى نشر الدكتور عبد الله الوهيبي (ت 1425هـ) بحثاً قيماً حول نسبة هذا الكتاب، ركز فيه على أمرين:
الأول: نفي نسبته إلى الحربي التي مال الشيخ الجاسر إليها.
الثاني: ميله إلى نسبته إلى وكيع.
لكن مقالته المهمة استحوذ عليها النفي أكثر من الإثبات. ولما بدأت في كتابة مقدمة تحقيق كتاب القاضي وكيع «أخبار القضاة» رجعتُ إلى نشرة الشيخ الجاسر الأولى لكتاب الطريق ونشرته الثالثة، وأخذتُ في دراسة أسانيد المصنف، وما أشار إليه من مشاهداته، وأقارن ذلك بأسانيد وكيع في أخبار القضاة، فملت شيئاً فشيئاً إلى النتيجة التي توصّل إليها الوهيبي، من نسبة الكتاب إلى القاضي وكيع، وكما ذكرتُ فإن الوهيبي ركز على النفي أكثر من الإثبات، وأنا هنا سأركز على الإثبات، ولن أتعرض للنفي، لماذا؟ لأن نسبة الكتاب إلى الحربي فنَّدها الوهيبي، وكان الشيخ الجاسر يقولها ظنًّا غير مرجِّح لذلك، وهو ما أثبته الوهيبي في نفيه نسبة الكتاب للحربي. وكان الدكتور سليمان العايد في مقدمة تحقيقه لكتاب غريب الحديث للحربي أشار إلى نصين نقلهما ابن حجر في فتح الباري لم يعثر عليهما في الكتاب، وهذا وإن كان يؤكد بُعْدَ الحربي عن نسبة الكتاب إلّا إن الباحث يجب أن يتحرَّز من نفي وجود نصوص في الكتاب وردت في مصادر أخرى، فإن الكتاب وصل إلينا مخروماً أكثر من خرم، لم نتبين مقداره، فلعل النصين في الجزء المفقود من الكتاب.
ونبدأ بنقل قول النديمعن كتاب وكيع، قال: «كتاب الطريق، ويُعرف أيضاً بالنَّواحي. ويحتوي على أخبار البلدان، ومسالك الطُّرق، ولم يُتمّه». فالكتاب له اسمان، ولعل في هذا إشارة إلى أن المصنف لم يستقر على اسم له، فمن ثم سماه من بعده بحسب مضمونه، وهذا دليل على أنه لم ينته منه. والكتاب الذي وصفه النديم يترجح أنه الذي طُبِعَ غير مُسْتقر لهُ على عنوان أو مؤلف، بتحقيق الشيخ حمد الجاسر، طبع أول مرة منسوباً ظنًّا لإبراهيم الحربي، شيخ وكيع، تحت اسم «المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة»، ثم طبع منسوباً للحربي بنفس العنوان السابق، ومنسوباً أيضاً للقاضي وكيع، باسم « كتاب الطريق»، بمقدمة للدكتور عبد الله الوهيبي، الذي ذهب إلى أنه هو كتاب الطريق لوكيع. وساق عدة أدلة على ما ذهب له. وهي أدلة قوية، تزيد قوة بما ينضاف إليها من أدلة أخرى سنسوقها بحول الله.
وقبل ذلك سنناقش مَن نقل عن الكتاب ونَسَبه إلى مؤلفه.
نسبة الكتاب للسَّكُوْني
نقل أبو عبيد البكري (487هـ) في معجم ما استعجم عن الكتاب في عدة مواضع، وقال في مقدمة كتابه:» وجميع ما أورده في هذا الكتاب عن السّكونىّ، فهو من كتاب أبى عُبيد الله عمرو بن بشر السّكونىّ، فى جبال تهامة ومحالّها، يحمل جميع ذلك عن أبي الأشعث عبدالرحمن بن محمد بن عبدالملك الكندى، عن عَرَّام بن الأصبغ السُّلمي الأعرابي». وتتبع الشيخ الجاسر تلك النقول، وخلص إلى أن معظمها ليست من رسالة عرام، بل إن نقلاً طويلاً جاء في ثماني عشرة صفحة نسبه البكري إلى السكوني وهو بنصه في نوادر الهجري. وفند الشيخ الجاسر أن تكون تلك النقول المنسوبة للسكوني من رسالة عرّام بما لا يقبل الشك. إذاً نحن أمام أكثر من احتمال لهذا التخليط الذي نجده في معجم ما استعجم، وهو تخليط لا يمكن أن يصدر من عالم ثبت جهبذ كأبي عبيد البكري، وهذه الاحتمالات هي:
الأول: لعل البكري وصلت له نسخة ملفقة من عدة كتب، لفقها وجمعها أبو عُبيدالله عمرو بن بشر السَّكُوني، من هذا الكتاب ومن غيره فاختلطت كتب عدة ولم يُبيّن مبتدأ رسالة عرام ولا منتهاها، بل ساق سند روايته لهذه الرسالة وكأنه سند رواية هذا الكتاب الملفق، ولما كان السكوني لم يضع عنواناً للكتاب أو عنونه برسالة عرام فأصبح الكتاب كله من إملاء عرام، على أن عراماً لم يمل إلا جزءاً يسيراً منه.
الثاني: أن ناسخاً نسخ رسالة عرام وأضاف لها ما وقع بيده من هذا الكتاب وغيره، ونسب كل ذلك للسكوني، حيث أخذ جزءاً من اسم راوي رسالة عرام عبد الله بن عمرو بن عبدالرحمن بن بشر الورَّاق الأنصاري، وأضاف له راوياً من بنات أفكاره وهو السَّكوني، فجعله راوياً لهذا التلفيق، فأصبح الكتاب له راوٍ، ووضع الناسخُ عنوان الكتاب «رسالة عرام» فأصبح النص كلّه لعرام.
الثالث: أن أحد تلاميذ وكيع نسخ كتاب شيخه الذي لم يتمه كما سيأتي، وأضاف له رسالة عرام وبعض النقول من نوادر الهجري وغيرها. وهذا احتمال أميل إليه. فإن من تلاميذ وكيع أبو القاسم الحسين بن محمد السَّكُونيروى عنه الخطيب بإسناده عدة أخبار عن مواضع بغداد وما حولها في تاريخه. ولعله أول الكتاب الذي سقط ولم يصل إلينا، لأنه تحدث عن النواحي والطريق، ومبتدأ كل هذا مدينة بغداد بلد وكيع. ونعثر في هذه الأسانيد والنقول التي نقلها الخطيب على الإسناد التالي:» قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: زعم عبد الله بن أبي سعد: قال: حدثني أحمد بن حميد بن جبلة، قال: حدثني أبي، عن جدي جبلة قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديين، يقال لها: المباركة، وكانت لستين نفساً من البغداديين، فعوضهم منها عوضا أرضاهم، فأخذ جدي جبلة قَسْمه منهم، وكان شارع طريق الأنبار لأهل قرية بباب الشام يسمون الترابنة». فهذا إسناد جاء فيه السكوني وعبد الله بن عمرو الأنصاري ابن أبي سعد الوراق، وهو الإسناد الذي بُنِيَ عليه الاسم الذي ساقه البكري، وكأنه مدمج منه.
كان الحسن السكوني من تلاميذ القاضي وكيع، فمن الممكن أن يكون اطلع على مسودة كتاب شيخه، أو قرأ بعضه عليه، فلما توفي شيخه وكيع سنة (306هـ) نسخ المخطوط على ما فيه من نقص، وأثبت عليه تملكه، وألحق به رسالة عرام السلمي، ومع تطاول الزمن اختلطت أوراق الكتاب، فرتبها ناسخ أو طالب علم ترتيباً خاطئاً، فتداخلت الرسالة مع كتاب وكيع، ولما رأى الناسخ سند راوية رسالة عرام ووجد اسم الحسن السكوني أول السند واسم عبد الله بن عمرو الوراق الأنصاري آخر السند أدمجهما مختصراً وعابثاً بالاسم، فظهر اسم آخر لا يمت لكليهما بصلة.
هذا الاحتمال أراه الاحتمال الأقرب لما نجد صداه في نقول أبي عبيد البكري عن الكتاب وعن رسالة عرام، ونسبة ما جاء فيهما للسكوني المجهول.
ونعود إلى ذكر من نسبت لهم النقول من هذا الكتاب.
نسبة الكتاب إلى الأسدي
أتى السمهودي (ت 911هـ) في كتابه وفاء الوفاء بنقول تتشابه كثيراً مع مادة هذا الكتاب، وصرح باسم من نقل عنه في عدة مواضع، قال في أول الكتاب:» وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي في وصف الطريق بين مكة والمدينة». وهذا النص بعينه في كتاب الطريق. وقد كفانا الشيخ حمد الجاسر مؤنة التنقير بين نقول السمهودي وكتابنا هذا فقال:» إننا نكاد نجزم بأن الكتاب الذي بين أيدينا ليس من تأليف الأسدي. ونجد نصًّا في كتابنا في الكلام على السقيا فيه التصريح بوجود المؤلف سنة (274هـ)، لكن الأسدي فيما نقل عنه السمهودي حذف هذه الإشارة». وأكد قول الشيخ الجاسر الدكتور قاسم السامرائي، حيث قال عندما تحدث عن مصادر السمهودي:» وتختلف نصوص السمهودي كثيراً عن نصوص المناسك [الطريق]. ولعل ما وصل إليه نسخة مختصرة من المناسك [الطريق]». والحقيقة أن كتاب الأسدي استفاد كثيراً من كتاب الطريق، ونقل منه باختصار كما تنبه لذلك السامرائي وزاد في مواضع ما ليس فيه. وللنظر إلى هذين النصين من الكتابين. قال في الطريق:» وعلى ميل من الطلوب مسجد للنبي- صلى الله عليه وسلم- بموضع يقال له: لحى جمل». والنص في كتاب الأسدي:» وعلى ميل من الطلوب مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بموضع يقال له «لحى جمل» قال: والطلوب بئر غليظة الماء بعد العرج بأحد عشر ميلاً، والسقيا بعد الطلوب بستة أميال، قال: وقبل السقيا بنحو ميل وادي العاند، ويقال له وادي القاحة، وينسب إلى بني غفار. انتهى.
ونقل السمهودي في موضع آخر عن الأسدي، قال:» إن العقيق علي ميلين من المدينة، الميل الأول خلف أبيات المدينة، والثاني حين ينحدر من العقبة في آخره». والنص في كتاب الطريق:» والعقيق على نحو ميلين من المدينة». فكما نرى فإن الكلام مختصر في كتاب الطريق مبسوط في كتاب الأسدي. هذا من ناحية النقل والبسط من الأسدي.
ونقارن بين هذين النصين، من كتاب الطريق:» وصلى على مسجد ذباب، جبل بالمدينة». وفي قول الأسدي:» ومسجد ذباب على الجبل. انتهى». فهو نقل وحوّر في النص بما يتفق مع سياق كتابه.
بالمقابل فإن نصوصاً نقلها السمهودي لا نجدها في كتابنا هذا، وليست مما ذهب في الخرم الذي أصاب الكتاب، لأنه جاء في موضع متصل، قال السمهودي:» وقد ذكر هذا المسجد أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين، وسماه مسجد العسكر، فقال: في تعديد المساجد: ومسجد العسكر، ومسجد يمين هذا في أصل الجبل. انتهى».
فالمحصلة أن الأسدي له كتاب مشابه لكتاب الطريق، اعتمد فيه على كتاب الطريق، وزاد فيه شيئاً كثيراً لا نجده في هذا الكتاب، ونقل منه بتصرف وتغيير، بل لعله توسع وناقش مواضع أخرى لي ست في طريق الحج لأننا لا نعرف موضوع الكتاب بالضبط.
نسبة الكتاب للحربي
وهذه النسبة مال إليها الشيخ الجاسر في أول نشرة للكتاب، ثم بدا له أن الراجح أنه ليس له، بعد أن نشر الدكتور عبد الله الوهيبي (ت 1425هـ) تعقيباً على نشرة الشيخ الجاسر في مجلة العرب ثم أعاد الشيخ الجاسر نشره في مقدمة الطبعة الثالثة للكتاب.
والحق أن الوهيبي وافق رأيه الصواب في أمرين، هما:
1- نفي نسبة الكتاب إلى العلامة إبراهيم الحربي، وساق أدلة مفصلة على ذلك تغني عن إعادتها، أو التزيد عليها بما لا طائل منه، فهو قد كفى ووفى، ووافق ذلك أن الجاسر كان وجلاً متردداً في نسبته إلى الحربي، ولكنه قارب أن يصل إلى المصنف، فالحربي شيخ وكيع ويلتقيان في الرواية على شيوخ كثر، وكلاهما من المصنفين، فكأن صنيع الجاسر فتح باباً للوهيبي ولج منه إلى تحديد المصنف المترجح لديه للكتاب.
2- رجح الدكتور الوهيبي إلى أن الكتاب من تصنيف القاضي محمد بن خلف الضبي، الملقب بوكيع، وساق عدة أدلة لم يتوسع فيها، فهو بذلك قد مهد لمن بعده أن يطرح أدلته الأخرى المؤازرة لرأيه، ولم أجد رأياً آخر يعارض رأي الوهيبي أو يحاول أن يتوصل إلى مؤلفه بعد ما نشره في مجلة العرب.
ولما قرأت كتاب وكيع أخبار القضاة وأحصيت شيوخه في هذا الكتاب، عدت لكتاب الطريق وقرأته على عجل، وأستطيع أن أضيف لما ذكر الوهيبي أدلة، تعزز ما رجحه، وتقودنا إلى تأكيد إضافي لنسبة الكتاب إلى القاضي وكيع. وهي:
أولاً: عدد الشيوخ الذين روى عنهم مصنف الكتاب تسعة وثمانون شيخاً (89)، منهم خمسة وخمسون(55) شيخاً، روى عنهم وكيعٌ في أخبار القضاة، وشيخ آخر روى عنه في كتاب الغرر، هو أبو إسماعيل العلوي، يُضاف إليهم شيخٌ روى عنه مصنف كتاب الطريق، ونصّ الخطيبعلى أن وكيعاً روى عنه، وهو: محمد بن عمر بن أبي مذعور، فيصبح عدد الشيوخ المتماثلين من شيوخ وكيع وشيوخ مصنف كتاب الطريق سبعة وخمسين(57) شيخاً. وعند النظر في هذا نجد أن مصنف الكتاب يتفق مع وكيع في ما نسبته (64%) من الشيوخ، أي قريباً من الثلثين، وهي نسبة كبيرة، خاصة إذا علمنا اختلاف موضوعي الكتابين، وتباعد ما بينهما في مآخذ الرواية ومظانها. يضاف لهذا أن كتب وكيع الأخرى في عداد المفقود، ولو ظهرت لكان حريًّا أن يزيد العدد، ومعه يزيد التماثل في الشيوخ.
ثانياً: تماثل بعض سلاسل الإسناد المطردة بين هذين الكتابين. فوكيع يروي في أخبار القضاة عن محمد بن عبد الرحمن الصيرفي، عن سفيان بن عُيينة، عن الزهري، في موضعين، ونجده كذلك في كتاب الطريق، ومثلُه في روايته عن محمد بن الوليد البُسْري، عن غُنْدر، ونجده كذلك في كتاب الطريق في الموضع اليتم الذي ساق روايةً عن غُندر.
أما ما ذكر الدكتور الوهيبي من تماثل رواية المصنف في كتاب الطريق وأخبار القضاة عن الأصمعي من طريق المبرد، عن التوزي، عن الأصمعي، فهو توهم منه- رحمه الله- أو سبقة قلم، فإن هذا وإن صدق في كتاب الطريق فإنه لا ينطبق على رواية وكيع في أخبار القضاة عن الأصمعي. فقد روى عنه بأكثر من طريق، جلها عن أبي يعلى زكريا بن يحيى بن خلاد المِنْقري، عن الأصمعي، وكونت تلك الطريق أكثر من نصف مروياته عن الأصمعي، ثلاث وثلاثون رواية من تسع وخمسين رواية مسندة له عن الأصمعي، يليه أبو حاتم السجستاني، روى عنه بواسطة الكراني تسع روايات. ولم أجده روى عن المبرد، عن التوزي، عن الأصمعي أية رواية، وهذا تبعاً لمادة الكتاب، واختلافه عن كتاب الطريق.
ثالثاً: الكتاب بصورته التي وصل بها إلينا منقوص، لم يتمه المصنف، فلم يُقْرأ عليه، وبقي مسودة لم يبيض. وهي صفة لازَمَت الكتاب منذ خروجه، قال النديم في وصف كتاب الطريق لوكيع:» ولم يُتمّه». وهذا يُعلّل اضطراب الكتاب في نُسْخته اليتيمة، فإن وكيعاً لم يكمل الكتاب، ووُجِدَ بعد وفاته ناقصاً، فمن ثَم لم يُقرأ عليه، ولم يُروى عنه. ثم زادت عوادي الزمان عليه شيئاً آخر وهو الخَرْمُ الذي لحقه، فكان ذلك مما ضاعفَ جهالة الكتاب، وأفقدَهُ اسم مصنفه، وأفقده بعض الخصائص التي يمكن أن تؤكد مؤلفه واسمه.
رابعاً: قال النديمعن الكتاب: «ويُعرف أيضاً بالنواحي. ويحتوي على أخبار البلدان، ومسالك الطرق». والناظر في موضوع الكتاب الذي بين أيدينا يجده يطابق هذا الوصف حذو القذة بالقذة. فهو يذكر النواحي التي يسير الحاج فيها إلى مكة من العراق والشام واليمن واليمامة، ويذكر ما يصاقبها، ويذكر بعض أخبار البلدان، مثل ذكر سلطة ابن عياش على هجر، وغير ذلك. ويذكر المسافات بين المنازل، والمسالك التي تسلك للوصول إليها.
خامساً: إذا قارنا بين أسلوب المصنف وأسلوب القاضي وكيع في أخبار القضاة في تقليبه لاسم أحد أهم شيوخه في الكتابين، ومن أكثر من روى عنهم وهو: عبد الله بن عمرو بن بشر الوراق المعروف بابن أبي سعد، نجد شبه تماثل بينهما، فإنه يورده في كلا الكتابين بعدة أسماء، منها:
عبد الله بن عمرو بن بشر، عبد الله بن أبي سعد عبد الله بن عمرو بن أبي سعد ابن أبي سعد. واستعمله كثيراً في كلا الكتابين. عبد الله بن عمرو.
وفي مثال آخر فإنه التزم في الكتابين بإيراد الاسم الكامل لأحد شيوخه، وهو: أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان.
كل ما ذكرنا يدعونا للاطمئنان في نسبة هذا الكتاب إلى وكيع، وهو اطمئنان يقوم على شفا اليقين، فلعل مخطوطة تظهر للوجود تقطع قول كل قائل في صاحب هذا الكتاب النادر.
ويعكر صفو هذا الظن المقارب لليقين أن في أحد أسانيد الكتاب المبتورة: « عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه - قال أبو جعفر: حفظي عن أبيه، ولم أره في كتابي –قال....».
وهذا الأثر لم أجد سنداً سبقه يمكن التعويل عليه، بل إن السند الذي سبقه نصه: أخبرني ابن أبي سعد، عن علي بن محمد بن [سليمان] قال...». وعلي بن محمد النوفلي الهاشمي لم يدرك عامر بن عبد الله المتوفى سنة (121هـ). فالسند كما نرى مبتور، لم يُعطف على سند يمكن التعويل عليه، فأبو جعفر لا شك أحد الرواة أو المصنف نفسه، ولا نعلم مَن هو. كذا يقول المنطق، لكن الصورة تتضح إذا عرفنا أن أصل الكلام دخله بتر وتحريف؛ أخلّ بالكنية وذهب بالإسناد. نتبَيّن ذلك بما ساقه أبو عُبَيد (ت 224هـ) في كتاب الأموال، فإنه أورد هذا الأثر، وفيه: «حدثنا إسحاق بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير - قال أبو عُبيد: أحسبه عن أبيه». فإذاً تحرّف « عُبيد» إلى « جعفر»، وسقط أول السند، فإن القاضي وكيع روى عن أبي عُبيد كثيراً في أخبار القضاة، وروايته عنه من طريق محمد بن إسحاق الصَّغاني. فتبين أن هذا الكلام من راوي الخبر أبي عبيد وليس من المصنف.
بعد هذه القرائن التي ساقها العلامة الجاسر ثم تبعه الدكتور: عبد الله الوهيبي، وتلاهما كاتب هذه الأحرف فإن نِسْبة هذا الكتاب المجهول المصنف تكاد أن تستقر على أنه مصنف القاضي وكيع، المسمى كتاب «الطريق»، الذي يُعرف أيضاً بكتاب «النواحي».
ولا يفوتني وقد عرضتُ ما وصلتُ إليه أن أشير إلى أن نشرة الكتاب التي قام عليها الشيخ الجاسر صُدّرت الأولى بمقدمة طويلة، تكاد أن تكون كتاباً مستقلاً، ترجم فيه للإمام إبراهيم الحربي ترجمة وافية شاملة، يحسن بمركز حمد الجاسر أن ينشرها في كتاب مستقل. وتحدث فيها عن الكتاب ونِسْبته للحربي أو غيره. ثم نشره نشرة ثالثة أسقط تلك المقدمة، واستبدلها ببحث الدكتور الوهيبي حول تصحيح نسبة الكتاب لوكيع، ولا تُغني هذه النشرة عن النشرة الأولى.
كما أن الكتاب بعد ذلك الزمن الطويل على تحقيق الشيخ الجاسر حقيق بأن يعتنى به من قبل المركز، وتُعاد مراجعة مَتْنه على مصورة المخطوط الملونة، فالنسخة كثيرة التحريف والتصحيف، ولا شك أن مراجعته على نسخة ملونة واضحة سيكون ناجعاً في تصحيح كثير من التحريفات والتصحيفات.