د.عبدالله البريدي
(1)
سمعتُ شيخَ البلاغيين المعاصرين العلامة الدكتور محمد محمد أبو موسى يقول هذه الكلمة الدقيقة الناجعة التي قرأتَها في عنوان هذا النص، فجالتْ في نفسي خواطرٌ معرفيةٌ، أضعها في هذه السوانح الصغيرة، التي أبتدرها بسؤالين مفتاحيين؛ يؤشران على بعض مسائل العلم وأسرار تحصيله وآداب تثميره.
(2)
من هم هؤلاء العلماء الذين يجدر أن نتأمل كلامهم؟
هم: العلماء/ المفكرون المتقنون الجادون المترصنون الصادقون، فهم متقنون في حقلهم تحصيلاً وفهماً، جادون في المعرفة تطويراً وتراكماً، مترصنون في كتابتهم أسلوباً ونظماً، صادقون في المعرفة تعليماً وبذلاً؛ وعلى رأسهم السادة العلماء والمفكرون الأفذاذ في تراثنا العربي الإسلامي في مختلف الحقول المعرفية.
ثمة من مثقفينا العرب من يعترض على تأمل كلام هؤلاء السادة من علمائنا الكبار، فقط لأنهم قدامى وكتبهم صفراء. هنا أقول على عجل: هل المعرفة والحقيقة منوطة بالقدم والحدوث، حتي يُساق مثل هذا التعليل؟ ألا يتأمل هؤلاء المثقفون كلام فلاسفة اليونان -مثلاً- ويشروحون متونه كلمة كلمة، وربما يكتبون تعليقات وشروحات وحواشي عليه، مع أن كل ذلك في الغالب مكرور معروف؟ ثم، ألم يقل باسكال: القدامى هم أكثر شباباً منا؟
إذن، لا يصلح مثل ذلك التعليل في الإنكار على تأمل كلام علمائنا في نصوصهم التأسيسية الملهمة. ومثل هذا يستلزم إعادة النظر في المسألة وتأملها مرة أخرى بمزيد من التجرد، وما أجمل المراجعة وما أبهى التجرد، وما أروع نقد الذات والبرهنة على أنها قد تخطئ أو تشتط في مرحلة ما لأسباب لا تمت بصلة إلى نظرية المعرفة وأسرار تحصيلها وعوامل مراكمتها، وكلنا كذلك، إذ لا نسلم من قدر يقل أو يكثر من هذا القبيل من الخطأ.
(3)
دعونا نعد إلى حياض علمائنا الأفذاذ، لنسأل: لماذا يكون لكلامهم هذه المنزلة والتأثير؟
سبب منزلة كلامهم وتأثيره، أنهم يزنون الكلمات بميزان المنهج واللغة والمصداقية والاتزان والتواضع والحقيقة والمصلحة؛ فتكون كلماتهم مُعلمة مُلهمة! ولهذا، نجد فرقًا هائلًا في الحصيلة العلمية بين شخص يقرأ كلام هؤلاء الأفذاذ كما يقرأ المقالات الصحافية أو التغريدات العابرة، وبين من يتأمل في كلامهم ويتفحص مراميهم، حين يجزمون بشيء، وحين يلوذون بلغة احتمالية، حين يجيبون، وحين يستشكلون وحين يمتنعون عن الإجابة، فيكتفي أحدهم بالإجابة الشافية الصادقة: لا أدري، والتي تفتح أبواب المعرفة لمن يأتون بعدهم، فالمعرفة مارثون متعدد المراحل، وهنا نتذكر مقولة ذهبية للباقلاني رحمه الله، لا نمل من تردادها وتذوقها، حيث يقول: «وجه الوقوف على شرف الكلام أن تتأمل».
(4)
ما حصيلة تأمل كلام أهل العلم؟ ما الغلة التي نخرج بها من هذا الفعل التأملي؟
نلحظ هنا أن التأمل في كلام العلماء الكبار هو بمثابة الوقوف أمام الباب، فقد يُؤذن لك فتلجُ وتصيب مما في الداخل، وقد لا يؤذن لك، فيكون حسبك حينها أنك هرولتَ في مضمار المعرفة وطرقتَ بابَها بنية صادقة! قد نتقحمها ونتعجل الإذن .. فلا يكون الرد منها إلا صداً ونفورًا، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه!
أو نطيل المكث في الداخل (=المعرفة في حقل/ موضوع ما)، فنقتات من خيراته، دون أن نغرس جديدًا، أو نصون قديمًا، أو نهذب طويلًا، أو نيِّسر عسيرًا، أو نجمل مدخلًا، فما يكون منه إلا أن يطلب منا المغادرة إلى ردهة: مستهلكي المعرفة، المتأخرين عن سداد مستحقاتها!
(5)
كيف نتأمل كلام أهل العلم؟
هذه مسألة طويلة معقدة، ولا أريد أن أجر هذه السوانح الخفيفة إلى تعقيدات تنظيرية، مما يجعلني أيمم صوب إجابة مختصرة، ترسم خريطة أولية، وعليك إكمالها وإنضاجها:
1 - لكل حقل معرفي منظومته اللغوية، فهل تعلمنا هذه المنظومة؟
2 - قد يكون لبعض العلماء/ المفكرين قاموسه اللغوي الخاص أو لنقل أسلوبه الخاص في التعبير والإبانة، فهل وطَّنا أنفسنا لتعلم هذا القاموس وتبين هذا الأسلوب؟
3 - إتقان القراءة التنقيبية في مناهج العلماء وأساليبهم في استخراج لآلِئ المعرفة من محارات المجهول، فهل تعلمنا هذه المناهج والأساليب؟
4 - الوقوف عن كل أسلوب جزم فيه العالِم، والتعرف على أسرار هذا الجزم، والبراهين التي ساقها وتصنيفها ضمن المنظومة البرهانية في الحقل المعرفي.
5 - التمعن في حالات التوقف عن الإجابة أو اللوذ بلغة احتمالية، واستكناه الأسرار وراء كل ذلك.
6 - تفحص مواضع الاستشكال للمسائل، وهل أوحى ذلك بأفكار أولية لمقاربتها أو معالجتها؟
7 - التأمل في ترتيب الأبواب والأفكار والمعالجات، في حالة كون العالِم لم يُبن عن سبب هذا الترتيب لا في المقدمة ولا أي موضع من مواضع الكتاب، وذلك أن الترتيب يحمل سرًّا، قد يقود إلى كنز معرفي ذي قيمة.
8 - القراءة الدقيقة للمقدمة وللبواعث الرئيسة لتأليف الكتاب أيًّا كان موضعها، ومدى كون هذا النتاج يمثل نسجًا معرفيًّا جديدًا أو إعادة صياغة لمعرفة سابقة، وقد لا تخلو هذه الصياغة من زوايا كاشفة لمسائل أو أفكار أو مفاهيم جديدة. وبخاصة أن كثيرًا من هؤلاء الكبار يستخدمون ما يعرف الآن باسم «التوصيف المكثف» Thick Description ، وهذا التوصيف يشير إلى المعنى العميق الضمني في الواقع أو النص المركَّب المبهم، الذي يصعب الوصول إليه أو الإحاطة به تمام الإحاطة، مما يُلجئ العالم إلى التوسل بلغة ثرية إطارية ملهمة، بغية تمكين القارئ على استخلاص دلالات معمقة خفية، وهو ما يجعل النص مفتوحًا لا مغلقًا، مُعلمًا مُلهمًا.
9 - إعادة قراءة النص مرة بعد مرة، وتدوين الأفكار التأسيسية والشذرات الملهمة، وإخضاعها لتأمل طويل، من وجوه وزوايا عديدة.
10 - عدم التعجل في الحكم على كلام أهل العلم، لا سيما بالتخطئة أو الثلب؛ دون التأمل الطويل والتفحص المتأني لفترات زمنية كافية، شريطة امتلاكنا للمنهج العلمي النقدي القويم، والتذكر أنه ليس من شأن الكبار التهوين من شأن الكبار، كما يقول محمد أبو موسى. وإذا كان ثمة ملاحظات نقدية سالبة، فتكتب بلغة احتمالية مؤدبة، إذ قد نكتشف لاحقًا أننا وهمنا أو أخطأنا أو فاتنا شيء أو أشياء. هكذا كانوا هم يكتبون، إذ يتوسلون بلعل وربما وأضرابهما، ويلتمسون الأعذار، ما لم يكن الخطأ صريحًا وثمة عليه برهان قاطع، فحينها يحدث التصحيح بلغة حاسمة، ولكن عالية مهذبة. ما أحوجنا إلى مثل هذه الأخلاق في مثل هذا الزمن، أليس كذلك؟!
**
* كاتب وأكاديمي سعودي