د.سالم الكتبي
ليس اليوم كالأمس في علاقات التحالف التاريخية، التي تربط بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، فهناك مياه كثيرة جرت - ولا تزال تجري - في قناة هذه العلاقات، وجميعها تؤكد أن الرياض تمضي بثقة وثبات باتجاه إعادة بناء شبكة علاقاتها الدولية وفق أسس ومعايير تناسب المكانة الدولية التي تطمح إليها المملكة العربية السعودية في القرن الحادي والعشرين.
بالأمس تابعت جدلاً دبلوماسياً دار بين الصين والولايات المتحدة حول تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الذي زار المملكة مؤخراً، وفحواها أن الولايات المتحدة لا تطلب من المملكة العربية السعودية أن تختار بين إقامة علاقات معها أو مع بكين، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، تعليقاً على ذلك «لقد أخذنا علماً بكلمات بلينكن»، وتابع «نأمل أن تكون أمريكا منفتحة حقاً بشأن العلاقات المتنامية بين الدول الأخرى والصين»، ودعا واشنطن إلى الكف عن ملاحقة الشركات الصينية ومطاردتها عالمياً، والتوقف عن ترويج قصة «فخ الديون الصينية، وختم وانغ وينبين رده قائلاً: «لقد كتب الرئيس الأمريكي السابق، جورج واشنطن، ذات مرة: «إن الأفعال وليس الأقوال هي المعيار الحقيقي لتعلق الأصدقاء»، نحن سنستمع إلى ما تقوله أمريكا، لكن الأهم من ذلك أننا سنراقب ما تفعله».
هذه القصة لا تقلق الجانب السعودي، فالموقف الرسمي للرياض ثابت ومعلن على لسان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، بأن «الصين شريك مهم للسعودية والشرق الأوسط وهناك مؤشرات على تعزيز التعاون معها في المستقبل»، وقال خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، في العاصمة الرياض: «الصين هي أكبر شريك تجاري لنا، وهي شريك مهم للمملكة ومعظم دول المنطقة»، وبالتالي لا مجال لإثارة تكهنات أو القفز إلى استنتاجات بشأن الموقف السعودي حيال إدارة العلاقات مع القوتين العظميين المتنافستين: الصين والولايات المتحدة، فلا غنى للمملكة عن إحداهما ولا مجال لاستبدال إحداهما بالأخرى.
أحد جوانب أهمية هذا التأطير المهم للمواقف في وجود الوزيرين الأمريكي والسعودي هو الكف إعلامياً عن إثارة التكهنات بشأن رد فعل أي حليف تجاه كل خطوة يخطوها الشريك السعودي سواء تجاه بكين أو واشنطن، ولاسيما في ظل تنامي الشواهد على التقارب المتزايد بين بكين والرياض، لاسيما إذا انضمت المملكة إلى عضوية تكتل «بريكس» في المرحلة المقبلة، بكل ما ترمز إليه هذه المنظمة وأعضاؤها المؤسسون (البرازيل وروسيا والهند والصين ولاحقاً جنوب إفريقيا) من بُعْدٍ سياسي لا يخفى على عين مراقب؛ فجميعها دول تطمح إلى تحقيق توازن إستراتيجي بين ثقلها السياسي العالمي وثقلها الاقتصادي أو العسكري، أو بمعنى آخر إجراء تغييرات هيكلية على قواعد النظام العالمي القائم بما يأخذ بالاعتبار الوزن النسبي للقوى الإقليمية والدولية الجديدة.
لو أخذنا بالاعتبار موقف الرياض المحايد في أزمة أوكرانيا، وما أنتجه هذا الموقف من توابع ملموسة على الصعيد الإقليمي تحديداً فيما يتعلق ببناء السياسات العربية والإسلامية حيال هذا الصراع، وأضفنا إلى ماسبق، انضمام المملكة العربية السعودية إلى منظمة شنغهاي للتعاون كشريك حوار، لأدركنا أن المملكة باتت لها أجندة حيادية مستقلة في إدارة التوازن الصعب في علاقاتها مع العالم، وقواه الكبرى تحديداً، فهذه المنظمات يتوقع لها أن تلعب أدواراً حيوية في صياغة معالم النظام العالمي القادم، ومرحلة مابعد أوكرانيا وما بعد «كورونا»، وما بعد الغرب بشكل عام، وهذا لا يعني بالضرورة تراجعاً أو انحساراً لأهمية التحالف التاريخي التقليدي القائم بين الرياض وواشنطن، ولاسيما بعد أن تجاوز الحليفان أزمة الثقة التي اندلعت بينهما في السنوات الأخيرة، وعادت الأمور إلى مسارها الطبيعي إلى حدٍّ كبير، وهذا - بالمناسبة- مؤشر على رسوخ التحالف وإدراك الطرفين لأهميته، وهو مؤشر نضج مكّن الجانبين ـ والأمريكي تحديداً ـ من استيعاب المتغيرات الإستراتيجية وفهم الواقع الجديد والسعي لإعادة ترسيم قواعد علاقات التحالف بما يحقق أهداف الطرفين وفق قواعد وأطر تضمن الندية وتحقق المصالح والأهداف الاستراتيجية المشتركة.
السعودية الجديدة تمثل مركز ثقل وقوة محركة للسياسات في الشرق الأوسط والعالم، وهذا كله يمثل حصاد السياسة الخارجية التي تنتهجها المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة، واضعة مصالحها الإستراتيجية نصب أعينها لتتحرك بشكل مغاير لما سبق وترسم لنفسها مسارات جديدة وسط لعبة التنافس والصراع الشرس على الهيمنة والنفوذ في المرحلة الراهنة من العلاقات الدولية.