حسن اليمني
ما الذي قدمته الأمة العربية والإسلامية للبشرية في العصر الحديث رغم ثرائنا واكتنازنا موروثاً تاريخياً يقر ويعترف به المتقدمون اليوم في الفهم والعلم والابتكار، وكان بمثابة المعطيات التي انطلقت منها المعرفية العلمية الغربية، هل عقمت النساء أم أن هناك من الأسباب ما عطَّل حركة الفكر والتفكير وأغلق منافذ الإبداع والابتكار، ليس الحديث هنا عن تقنية أو ميكانيكية تصنيعية أو منتج بحوث علمية دقيقة، لا أبداً فكل هذه منتجات فكر وتفكير وإنما أتحدث عن الأصل أي الفكر والتفكير الإيجابي ومن عطله وأغلق دائرته رغم أنه هو السبيل الوحيد للوصول للعطاء المادي والحسي القابل للتصدير. ولا يعني هذا أنه لا وجود لفكر حر إيجابي بلى يوجد لكنه ليس المنبسط الأوسع أو الصورة الظاهرة.
إن ما يعرقل انطلاقة العقول في التفكير الإيجابي بالمعنى «السوسيولوجي» - التحليل الاجتماعي أو ممارسة الفحص المنهجي لمشكلة أو قضية اجتماعية - في اعتقادي ربما هو في غياب أدوات القدرة على فهم المادة المدروسة وما يحيط بها من انساق معرفية ثم القدرة على التعبير عن المعارف المستنبطة والمستنتجة بلغة موضوعية، ولهذا تغيب عن الفهم العام رؤية حقيقة الواقع وتموجاته بفعل إحداثيات العصر، وأظن أن سبب ذلك يعود إلى غياب توثيق التاريخ بالشكل المكتمل في أبجديات معطياته.
غفلتنا عن إعادة تصحيح وتصويب التاريخ هذه أنتجت لنا وهنا وضعفا يسوقنا بملء إرادتنا نحو استيراد تجارب الآخرين ونتاج فكرهم حتى في الاتجاه الديني والقيمي، بل وفي صميم هذا الاتجاه ليصبح الفهم اقتصادياً واجتماعياً بالغلاف الديني أو السياسي وحتى الثقافي لتسويق النفع الذاتي أو الفئوي، ولا أعيب في هذا النهج بشكل كلي، بصرف النظر عن مبعثها وعلى الأقل تبقي على وجود الحيز أو الخام الفكري حي وحاضر لحين نشغل العقل والفكر، وهو على كل حال في جانب آخر تطور انسياقي في الفهم الممهد والساحب للتوسط والاعتدال، وإن بقي مثل الأعمى الذي يحمل شعلة ضوء في الظلام، ذلك أن أمتنا العربية والإسلامية تمتلك الثراء المعرفي الذي يحتاج فقط لتحرير الفكر في الفهم والاستيعاب والاستنتاج والاستنباط، وان حدث - وهو بحكم الطبيعي المنطقي يحدث، إذ لا تخلو أمة من عقول مفكرة- لكننا لا نولي هذا الاتجاه الاهتمام الكافي ولا الرعاية المحفزة التي تخلق الضوء وتنير العقل، يساعد في ذلك ضعف الميل للقراءة الجادة من العموم والتلهي باللامع الصاخب سواء وسائل إعلام أو مخرجات فن وثقافة هلامية هي في ذات سقف المفهوم الجمعي تتأثر به وتؤثر فيه وتسعى أما لتسخيره لصالحها أو إعادة توجيهه لداخله ليبقى ويستمر يدور في ذات الحلقة التي يدور فيها منسجم ومتناسق مع سعة ومدى الفهم العام، ولا يتم التفكير أبداً في تطوير هذا الفكر العام ليتحرر من خارج دائرته ومحيطة ليكتشف ما هو الأصوب من تلك التجارب المستوردة لتنظيم الحياة وتدعيم مسارها نحو المستقبل.
قد نرد أسباب ذلك للضعف والانحدار الذي صاحب مراحل تاريخ الأمة العربية والإسلامية ولا يزال منذ النصف الثاني من العصر العباسي، وبصرف النظر عن هذا مؤقتاً إلا أن أمتنا العربية والإسلامية حتى الآن لم تدرس تاريخها ومراحله بشكل بحثي أكاديمي يستوعب جميع تفاصيل تلك المرحلة بكامل ظروفها، السياسي يراه أو يقرؤه حسب فهمه السياسي والديني يراه ويقرؤه حسب فهمه الديني والاجتماعي، وكل ذلك من خلال بابه العاطفي لا العقلاني وهكذا، في حين أن هذه وبرغم عاطفتيها تعتبر زوايا رؤية خصوصية في فهم واستيعاب التاريخ تفتقر حتى للمنطق الطبيعي الذي يحتوي كل التفاصيل بكل أبعادها ومستوياتها لرسم أقرب الصور للحقيقة التاريخية والتي يمكن من خلالها اكتشاف مفاصل الخطأ والصواب.
إن أي أمة لا يمكن أن تنفصل عن تاريخها شاءت أم أبت، وأي أمة اختارت أن تلبس تاريخ غيرها بميل عواطفها ورغباتها أو تحت وطأة الهزيمة والقهر لا بد وأن تدخل في متاهات التباين في الرؤى كل حسب مصالحه ومنفعته، بمعنى إن لم تتحد الرؤية من العمق التاريخي الأصيل في رؤيته للراهن والتطلع للمستقبل فإن تناثر الأيدلوجيا الفكرية والفلسفة المنطقية المستوردة إلى داخل المجتمع تعطل مساره في الاتجاه الصحيح، وإن كان التنوع الفكري والثقافي محموداً وإيجابياً إلا أن تصادمه مع بعضه وإلى حد التطرف والغلو والعداء ما لم يكن صادراً من أرضية أصيلة مشتركة فإنه يعني فوضى وتشرذماً وإن سطت قوة وغلبت، أن ظهور التصادم الصلب في الرؤى والفكر في عالمنا الإسلامي والعربي نتيجة طبيعية لغياب التفكير الإيجابي، عكس ما نلاحظه في العلاقة السياسية الدينية المستريحة مع التاريخ في الغرب راهن العصر والمتعاونة فيما بينها حتى بوجود التطرف في كلا جانبي الغلو والانحلال، وإن كنا نعلم أن أوروبا والغرب عموماً خاضوا صراعاً طويلاً لطحن الطبقية والتمايز دون تحقيق حسم لطرف على الآخر إلا أن ذلك أدى في النهاية لظهور الفكر الإيجابي ليحل محل الطرفين المتصارعين ليظهر العصر الحديث بشعارات الحرية والمساواة في قالب ليبرالي وعلماني أخرج العقول من صناديق التواريخ المحنطة لإعادة تفكيكها وتحليلها بتجرد وصدق، وهو الأمر الذي سهَّل عليهم الخروج من تصادم الفكر المحبوس أو المتجمد إلى تذويبه وتفكيكه وإعادة قراءته بكل أبعاده خارج صناديق الحفظ المتوارثة ما خلق التفكير الإيجابي تحت النظرية العلمانية والنيو ليبرالية المديرة للحياة الكلية للأمة بشكل عام هناك.
التفكير الإيجابي يستوجب بالضرورة إعلاء كينونة العطاء على حساب كينونة التملك والأنانية، وإذا كان ذلك في منطقه من ضروب المثالية فإن المطلوب فقط مقاربة التوازن الإيجابي فيما بينهما من خلال الانصياع أمام الحقيقة والخضوع لها لتصل الأمة العربية والإسلامية إلى المسار الصحي السليم بأقصى درجة نسبية تماهي المستوى الذي توفر في المجتمعات الغربية (علمانية وليبرالية) بضبط السلوك واحترام الرأي وحفظ الحقوق والمساواة، وأمتنا العربية والإسلامية في حاجة لهذا المنطق في الرؤية والتطبيق للنهوض، ويبدو لي أن ذلك لن يكون إلا من خلال التفكير الإيجابي بالمعنى الذي ذكرته في السطور السابقة. ولن نفهم أو ندرك الحاجة القصوى لنهج التفكير الإيجابي وأهميته وقيمته ما لم يتم فهم وإدراك قيمة وأهمية إعادة تدوين التاريخ كما هو في حقيقته وغاياته وأهدافه حتى تلك التي قد لا نتفق معها أو لا نقبلها أو بأقرب صورة لهذه الحقائق بعيد عن العاطفة والتحيز.