اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من الواضح أن ما يشهده العالم من نزاعات دولية وما يدخل فيه من صراعات بينية اضطرت الدول الفاعلة في النظام الدولي إلى محاولة وضع الاستراتيجيات والنظريات في سبيل إيجاد الوسائل العقلانية واتباع الطرق السلمية التي على ضوئها يتم التعامل مع النزاعات بما يكفل المساهمة في حلها قبل أن تتحول إلى صراعات دامية وحروب حامية تتجاوز سقف التوقعات وتخرج عن محيط الحسابات.
ولتحقيق هذه الغاية تلجأ الأطراف المهدَّدَة إلى ما يعرف بنظرية الردع من خلال التلويح باستخدام القوة الصلبة لإجبار الخصم تارة، واستخدام قوة الإرغام لإبطال سياسته وكسر إرادته تارة ثانية، والعمل بالقوة الناعمة لاستمالته تارة ثالثة، متخذةً من التهديد وسيلة لمنع التصعيد ومن اللجوء إلى أسلوب الردع ما يحول دون اتساع الصدع واستعصاء الفتق على الرقع.
ونجاح سياسة الردع وقدرتها على تحقيق أهدافها يتوقف على حكمة متخذ القرار وعقلانيته بحيث يتصرف وفقاً لمعطيات صحيحة واعتبارات منطقية يتم عن طريقها تحديد قدراته بناءً على ما يتوافر له من إمكانات من جانب، وتقدير قدرات خصمه وإمكاناته بصورة واقعية من جانب آخر، مع الابتعاد عن الممارسات غير المحسوبة التي تتعارض مع سياسة الردع المطلوبة وكياسة متخذ القرار المرغوبة، وقد قال أكثم بن صيفي: نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب.
وقد جرى تعريف الردع بأنه استراتيجية سياسية ذات أدوات عسكرية تقوم على ربط السياسة الخارجية بالتخطيط والعمل العسكري، كما قيل عنه بأنه عملية نفسية تهدف إلى إقناع أو إجبار الخصم بعدم جدوى الحرب ومنعه من اتخاذ أي قرار يهدد مصلحة الطرف الذي يقوم بالردع.
ورغم تعدد تعريفات الردع ومحاولة التوسع في توضيح مفهومه إلا أن هذه التعريفات تتمحور حول محور واحد هو أن يقوم طرف ما بردع الطرف الآخر ومنعه عن شن حرب ينوى القيام بها، مهدداً إياه باستخدام جميع عناصر القوة بشقيها المعلن والكامن واعتبار التلويح بالقوة مرادفاً للتلويح بالقدرة.
ويحتل الردع بشقيه التقليدي وما فوق التقليدي مكانة كبيرة في العلاقات الدولية والصراعات البينية، لما يهدف إليه من الجنوح إلى السلم وتفادي اندلاع الحرب على ضوء ما يبرز لطرفي الصراع من حقائق ومؤشرات تجعل الطرف المطلوب ردعه يستجيب للرادع نتيجة لما يستبين له من مآلات مظلمة وعواقب مؤلمة بعد أن يحسب الاحتمالات، ويوازن بين النتائج والتبعات.
وهذه الحقائق والمؤشرات تدعو إلى حل الخلافات بالطرق السلمية وعبر الحوار والدبلوماسية بعيداً عن خيار الحرب، وما يؤدي إليه ذلك من البعد عن الهدى والسقوط في هاوية الردى بسبب التدمير وسوء المصير.
وفي هذا الزمن الذي تطورت فيه استراتيجية الردع واتسعت مفاهيمه بسبب استفحال الصراع وتطور أدواته وتعدد وسائله ووجود تلك القوى النووية التي اتخذت من الشيء طريقاً إلى نقيضة، كما هو الحال بالنسبة للدول الكبرى التي يُشكل توازن الرعب النووي بالنسبة لها رادعاً يمنع المواجهة المباشرة بينها واللجوء إلى الحرب بالوكالة والحرب الهجينة لتصفية الحسابات وبلوغ الأهداف والغايات على حساب الدول التابعة والضعيفة.
وعلى ضوء امتلاك الأسلحة النووية فإن مصداقية التهديد باستخدام هذه الأسلحة، وما يترتب على استخدامها من عواقب وخيمة ومخاطر جسيمة، يقابلها في الوقت نفسه مصداقية الردع الذي يهدف إلى تجنب الدخول في حرب نووية مدمرة يتطلب تجنبها وتقدير عواقبها الأخذ بطرف المعادلة الثاني واستخدام القدرات النووية كأداة للردع ومنع الحرب بدلاً من استخدامها كأداة لهذه الحرب.
ورغم لجوء الدول الكبرى إلى سياسة تهجين الصراع والمزج بين أنواع واستراتيجيات الردع مع التركيز كثيراً على استراتيجية الحرمان فإن هذه الدول تعمل جاهدة لجعل قواتها العسكرية محل اهتمامها ومنحها الأولوية على غيرها من عناصر القوة الشاملة الأخرى بالنسبة للدولة، كما ينصب التنافس بينها على تطوير القوة العسكرية والنظر إلى أن التفوق فيها هو مقياس التفوق الحقيقي.
ورغم المعاناة التي عاناها العالم من جراء الجائحة الوبائية في السنوات الماضية وما تداعى لها من تداعيات اقتصادية وصحية واجتماعية والاعتقاد بأن الاهتمام بالقوة العسكرية يتراجع قياساً على ما يقابله من الاهتمام بالاقتصاد والصحة إلا أن الشواهد القائمة والتوقعات القادمة ما تزال تؤكد وجود التنافس بين الدول الكبرى في المجال العسكري من خلال زيادة الموازنات المالية وتطوير القدرات العسكرية وتحديث ترسانات الأسلحة والوسائل التكنولوجية.
وسياسة الردع في حقيقتها تعتمد على معرفة النفس ومعرفة الخصم وبناء على هذه المعرفة يتم تحديد الفعل المطلوب ردعه والموازنة بين استراتيجيات الردع بغية القدرة على مواجهة الخصم والتغلب على التدابير والمواقف التي يتبناها من خلال معرفة ما يقابلها من تدابير وإجراءات مضادة، وما هو النوع المطلوب التركيز عليه من أنواع الردع المتمثلة في العقاب والحرمان والاطمئنان والمكافأة.
ونجاح سياسة الردع يعتمد على وضوحها وجديتها ومصداقية الالتزام بها، وتوفر الإمكانات والقدرات العسكرية والسياسية لدى الطرف الذي يقوم بالردع على النحو الذي يجعله على استعداد لمواجهة كل المواقف والاحتمالات المترتبة على هذه السياسة.