جواهر الرشيد
ألّفَ اللهُ بين القلوبِ عن طريقِ نوعِ العلاقةِ بين البشر، وإنَّ أوثقَ العلاقاتِ صلةً بالمشاعرِ الصَّادقةِ والأحاسيسِ المرهفةِ هي علاقةُ رابطةِ الدَّم، كعلاقةِ الآباءِ والأمَّهاتِ بأبنائِهم والأُخوَّةِ بأخواتِهم وغيرِها ممَّا لا يشوبُ تلكَ العلاقاتِ في مشاعرِها زيفٌ ولا رَيب.
وقد نظَمَت العربُ في جاهليَّتِها قصائدَ فخرٍ ومدحٍ ووصفٍ لأمجادِ أعراقِهم وأجدادِهم، وأبكَتْنَا حِينما نظَمَت في وصفِ حزنِها على فراقِ أحبابِها بذكرِ أخلاقهِم الأصيلةِ التي دُفنت مع أجسادِهم، فالعربُ لا تبكي على روحِ مَن فقدَت فقط بل إنَّ ما يُضاعِفُ حزنهم عليه فقدهم لتلكَ القيمِ الأخلاقيَّةِ السَّاميةِ والنَّبيلة. فإنَّ أصدقَ ما قيلَ في الشِّعرِ العربيّ ما نُظمَ في ظاهرةِ الموت، وهو فنُّ الرِّثاء؛ لما فيه من تعبيرٍ صادقٍ عفويٍّ مباشرٍ لا يعتريهِ تكلُّفٌ ولا صَنعةٌ ولا مَكسبة. وأقدمُ مَن نثرَ شعورَ الحزنِ في قلوبِ العربِ فبَكى ورَثَى هو المهلهلُ بنُ ربيعةَ في أخيهِ كُلَيب، ومِمَّا قالَ فيه:
دَعَوتُكَ يَا كُلَيبُ فلمْ تُجبنِي
وكيفَ يُجيبني البلدُ القِفَارُ
أَجِبني يَا كليبُ خَلاكَ ذَمٌّ
فقد فُجِعَتْ بفارسِها نزارُ
امتازَ شعراءُ الرِّثاءِ بمَلَكَةٍ فِطريةٍ في وصفِ ظاهرةٍ كونيَّةٍ لا مناصَ منها، وهي ظاهرةُ الموتِ التي أَفجَعَتْ قلوبَ البشرِ وحيَّرت أذهانَ الفلاسفةِ وأبرزَت رقَّةَ أفئدةِ الأدباءِ ووفاءَها للرّوحِ المفقودةِ وللقيمِ التي فُنيَت مع أصحابِها من العفَّةِ والكرمِ والمجدِ والشَّجاعةِ والفصاحةِ والصِّدقِ والصَّبر.. وغيرِها من القيمِ العربيَّةِ الأصيلةِ التي تستحقُّ شعورَ الفقدِ وحُرقةَ القلبِ ووجعَه. فكانَ شعرُ الرِّثاءِ أبرزَ وأهمَّ المواضيعِ الشَّعريَّةِ وأصدقَها رغمَ تعدُّدِها وامتلائِها بالأحاسيسِ والمشاعر.
وقد شاركَت المرأةُ في شعرِ الرِّثاءِ أكثرَ من غيرِه من أغراضِ الشِّعرِ الأخرى؛ لعاطفتِها القويَّة، فنجدُ أنَّ الشَّاعرةَ -الخنساء- لم تنظمْ إلَّا في فنِّ الرِّثاءِ فنَعَتْ ورَثَتْ أخوَيها صخرًا ومعاوية، ومِمّا قالَتْ في رثاءِ صخر:
يُذكِّرُني طلوعُ الشَّمسِ صخرًا
وأذكرُه لكلِّ غروبِ شمسِ
وَلولا كثرةُ البَاكينَ حَولي
عَلَى إخوانِهم لقتَلتُ نفسِي
أطالَت الخنساءُ الحزنَ وأبَت نزعَ ثوبِ الحدَادِ لسنينٍ طِوال وابتعدَت عن العيشِ في جنباتِ رغدِ الحياةِ بعد أن فقدَت أخاها صخرًا الذي لم يكُن فِراقُه إلَّا موتًا لروحِها بينما قلبُها كان ينبضُ في رحمِ الحياةِ. افتقدَت روحَه فلم يَعُدّ شيءٌ يُلهيهَا غير تذكارِ صخرٍ ومآثرِه ودموعٍ تنهمِرُ حُرقةً على فراقِه، تقول:
أنَّى تأوّبني الأحزانُ والسَّهرُ
فالعينُ منِّي هدوءً دمعُها دُرَرُ
تَبكِي لصخرٍ وقد رابَ الزَّمانُ بهِ
إذ غالَه حَدثُ الأيَّامِ والقدرُ
سَمْحٌ خلائقُه جَزْلٌ مواهِبُه
وَافي الذِّمامِ إذا ما مَعشَرٌ غدَروا
مأوى الضَّريكِ ومأوى كلِّ أرملةٍ
عند المحولِ إذا ما هبَّت القُرَرُ
تخضرَمت الخنساءُ فعاشَت شطرًا من حياتِها في الجاهليةِ وشطرًا في الإسلامِ، وقدمَتْ إلى رسولِ اللهِ? مع قومِها فارتضَت الإسلامَ دينًا. شهِدَت القادسيَّةَ التي شاركَ فيها أبناؤها الأربعة، فنصحتهُم بقولِها: «إذا أصبحتم غداً - إن شاء االله - سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكُم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة.» فخرج بنوها قابلين لنصحِها، لكنَّهم استشهدُوا فيها، ومَا تلقَّت خبرَ قتلِهم إلّا بقولِها: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».
واجهَت شعورَ الفقدِ في جاهليَّتِها وإسلامِها ولم يكُن موقفُها في الفقدَين واحدًا؛ لطبيعةِ العصرِ في عاداتِهِ وتقاليدِه تجاهَ المواقفِ من الثَّأرِ وغيرِه مع أنّ الشّعورَ الذي يُقذفُ في القلبِ واحدٌ لا يتغيَّرُ بتغيُّرِ العصور، ولم تُهيَّجْ شاعريتُها في مقتلِ أبنائِها معَ أنَّ عاطفةَ الأمومةِ لا يطغَى عليها أيُّ نوعٍ من العواطف، وربَّمَا كانَ صمتُها عن المصيبةِ وكتمُها بدفنِها في وجدانهِا أقوى وجعًا عليها من إفشائِها، فالقلبُ يضعفُ إذا واجَهَ شعورَ فقدِ العزيزِ جسدًا لا روحًا ويصعبُ عليه مجابهة حياةٍ لا سندَ لها فكيف إذا فقدَ روحَه وجسدَه معًا.. لا شكَّ أنَه سيفقد رغبتَه في استمراريةِ الحياةِ حتّى يذبل. فالفِراقُ ظاهرةٌ قديمةٌ منذُ الأزلِ لا يتجدَّدُ منها إلّا كثرةَ القلوبِ المتوجِّعة التي تستمدُّ أملَ الحياةِ من طيفِ ذكرى مفقودِها، وتَتداوى بدعواتٍ يُحييها ليلُها شوقًا ووفاءً لمحبوبِها، وإيمانًا برحيمٍ يسمعُها ف تكتُمُ لواعجَ لحياةِ وتدفنُ الحزنَ في أرضِ الوجدانِ بتصبُّرٍ منها؛ لوعيها تجاهَ الحِكمِ المخفيةِ عنها.