رضا إبراهيم
من الخطأ الجسيم ما يعتقده الكثير، من أن دراسة التاريخ، هي دراسة للماضي فقط، وعلى العكس من ذلك، فإن التاريخ ليس هو الماضي، ولكنه قاعدة للمستقبل وهو «المعلم الأكبر»، والتاريخ انعكاسٌ لكليهما على المستقبل، وهو في حدِّ ذاته موضوع مثير للاهتمام، له من الجاذبية ما لغيره، وهو كتاب مفتوح على مصراعيه للتفسيرات ومعرفة وجهات النظر المختلفة، والتاريخ يمتلك قدرات وإمكانات كبيرة جداً لتغيير طريقة التفكير والتعلم من أخطاء الماضي.
والتاريخ يساعدنا على فهم كيف ظهرت الدول المختلفة، وكيف شكل العالم الحديث نفسه، والتاريخ يجعل قرَّاءه يقومون بالتركيز على تحليل النتائج والدروس المختلفة، واستنتاج ما يمكن أن يحدث في الظروف المختلفة، وفي إحدى مقولاته الشهيرة عن التاريخ تحدث ونستون تشرشل (1874 - 1956م) رئيس الوزراء البريطاني السابق قائلاً «كلما نظرت إلى الخلف أبعد، يمكنك رؤيته إلى الأمام».
وقراءة التاريخ تُكسبنا المزيد من البصيرة والخبرة، فيما يجب أن نُقدِم عليه وما يجب أن نبتعد عنه، وهو بمثابة مُنظر لمن يمعن التفكير في التجارب، ويأخذ منها القواعد العامة ويشترك في إعداد التصورات، والملاحظ هنا أن دور المؤرخين في تطوير الدراسات المستقبلية، قد تزايد في الآونة الأخيرة، فهم يقومون بإنتاج المعرفة حول العوامل التي شكلت الحاضر وأثرت في المستقبل، والتاريخ يوفر معرفة التجارب التاريخية وعمليات التغيير التي حدثت في الماضي، وشكل النتائج التي ترتبت على هذا التغيير.
ولأن التاريخ يوضح لنا كيف تم استخدام القوة والمعرفة في تحقيق التغيير، فإن الدراسات المستقبلية يمكنها التعامل مع المستقبل، باعتباره كفاحاً ممتداً وصراعاً بين قوى مختلفة، ولذلك قامت الكاتبة الأمريكية جين أندرسون (1888 - 1972م) بتسميته بـ(تاريخ المستقبل) وهو مفهوم جديد يمكن أن يفتح مجالات جديدة لتطوير نظرتنا للتاريخ والمستقبل، وفي نفس الوقت يمكن أن يساهم ذلك في تطوير الدراسات المستقبلية، ويعمل على فتح مجالات التعاون بين العلوم المختلفة لتطوير علوم جديدة، ثم إخراج الدراسات المستقبلية من مجال الاستنتاجات أو التوقعات إلى الوجود الفعلي.
وحول تعريف التاريخ بالمعنى العام، فهو يعني «دراسة الماضي»، أما معناه الخاص فهو البحث في أحوال البشر الماضية، ويعرِّف ابن خلدون (1332 - 1406م) التاريخ بقوله «إنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال، مثل التوحش والتآنس والعصبيات، وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران «المجتمع» بطبيعته من الأحوال».
وتعريف ابن خلدون هذا يعني أن التاريخ لا يقتصر على دراسة الحروب أو الحوادث السابقة، بما فيها من أحوال الحكومات والقادة والدول، بل إنه يبحث في جميع ظواهر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية، والواجب ذكره هنا أن التاريخ يختلف «شكلاً وموضوعاً» عن العلوم التجريبية وغيرها بموضوعه ومنهجه، كونه لا يعتمد على الدليل العقلي المحض كما في الرياضيات، ولا على التجربة والملاحظة المباشرة، كما هو الحال في العلوم التجريبية.
وبما أن التاريخ مختلفٌ عن موضوعات غيره من العلوم، فقد لزم أن يكون منهجه كذلك مختلفاً عن بقية المناهج الأخرى، ومقتصراً على موضوع علم التاريخ، وأما العلم التجريبي فهو قائم في ذاته على الملاحظة المباشرة، التي لا تحتاج إلى إثبات الحدث أو إنكاره، وبذلك نلاحظ أن التاريخ بني على الوثائق، ما يعني أن علم التاريخ يحتاج إلى إثبات الحدث التاريخي، وإلى نقد الوثائق والآثار والأخبار التي تبرهن على وجود ذلك الحدث في الماضي.
وحول ما تسمى بالعهود التاريخية، فهي عهود لها أحداث في فترات ما قبل التاريخ، والدليل عليها يتوافر في الوثائق المكتوبة أو المنقوشة أو المادية بكل أنواعها وأصنافها، وعلى الرغم من اختلاف تلك الوثائق من نواحي الوفرة أو الجودة، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، إلا أنها على وجه العوم تكفي لإثبات الحوادث التاريخية وتعليلها وتفسيرها، لذلك أقدمت الدول (اللهم القليل جداً) على استحداث المتاحف لحفظ الآثار ولحماية الوثائق المادية، كما أنشأت مخازن الكتب لحفظ الآثار المدونة (المكتوبة والمصورة والمحفورة)، ووضعت لها فهارس منظمة وملخصات مرتبة ومبوبة.
وبالحديث عن دراسة النماذج التاريخية من قبل قادة المستقبل، يؤكد دكتور جاسم سلطان في كتابه المشوق «من الصحوة إلى اليقظة إستراتيجية الإدراك للحراك» على أن التاريخ ليس علماً للمتعة، ولكنه أداة مهمة جداً لعدد من الأشياء، فهو أداة من أدوات استخراج النماذج والمقاربات من واقع القائد والمستقبل المتوقع، وهو أيضاً أداة للإقناع، فعندما تقوم بالتحاور مع شخص ما ثم تستلهم التاريخ عندها يمكنك التدليل على كل ما تقوله، فأنت تتكلم عن شيء حقيقي لا عن أوهام أو ظنون، وزاد سلطان في قوله بأن التاريخ يُعد أداة من أدوات رفع الروح المعنوية، ضارباً أحد الأمثال على ذلك، بالطريقة التي يقوم العالم الغربي باتباعه في رفع الروح المعنوية عند أتباعه من خلال استخدام التاريخ.
وطالما قامت الدول الكبرى باستخدام التاريخ كأداة مهمة للإرشاد ووسيلة للبناء والتعلم، بعد أن أخذت من إنجازات الآباء والأجداد، ومن حياة العظماء تلك المحفزات المؤدية إلى اكتساب النجاح، ويجب الإشارة إلى إن الدول التي لا تقوم بتدريس التاريخ في معاهدها أو جامعاتها بطرائق تثير خيال المتعلمين، وتزيد قدرتهم على بناء الرؤية والقيادة والتفاعل مع الأحداث، من الصعب جداً عليها بناء مستقبلها أو تحقيق أهدافها طويلة المدى.
وتلك الدول نظير ذلك، يمكنها فقط الاستسلام والخضوع للواقع، ما يعني أن بناء المستقبل لا يعتمد فقط على تدريس التاريخ أو قراءته أو كتابته، وإنما يعتمد في المقام الأول على تحويل التاريخ إلى أشياء فاعلة في حياة الشعوب، حتى يثير خيال كلٍّ من شبابها وقادتها، ويشحذ هممهم ويحفز طاقاتهم للتأثير في الشعب، وتعبئته لتحقيق الأحلام الكبيرة.
وهناك كتاب شهير للقائد الصيني الكبير صن تزو، يعود تاريخه إلى أكثر من (2000) عام وذلك الكتاب يعرف بـ»فن الحرب» وقد اشتمل الكتاب على نحو (6000) جملة ومقطع ضمن (13) باباً ومقالة، حيث جسد خلالها تزو أفكاره العسكرية وتجاربه، وقد سمي نفس الكتاب بـ(أول كتاب عسكري قديم بالعالم)، كما أطلق عليه أيضاً «الكتاب المقدس للدراسات العسكرية»، ومنذ صدوره تم تطبيق المبادئ التكتيكية والأفكار الفلسفية التي جاء بها الكتاب بنجاح كبير في كافة المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وغيرها من الأمور المصيرية، وذلك على منذ صدوره وحتى الآن.
وأبلغ مثال على نجاح كتاب تزو، أن قيادة القوات الأمريكية كانت أشد حرصاً أثناء ذهابها إلى منطقة الخليج العربي عام 1990م، وقبيل أشهر من نشوب عاصفة الصحراء (تحرير الكويت) على أن يحمل كل جندي وضابط أمريكي، نسخة كاملة من كتاب فن الحرب، إضافة إلى أن الإستراتيجية العسكرية الأمريكية التي تعرف بـ (الصدمة والترويع) والتي قام بتدشينها الخبير العسكري الأمريكي هارلمان أولمان عام 1996م حينما نشر كتابة (الصدمة والرعب وتحقيق الهيمنة السريعة - chock and awe achieving rapid dominance)، قد شُيد كل أفكاره على كتاب فن الحرب الصيني.
ولا عجب حالة معرفة أن كبرى الشركات اليابانية، قد اعتادت مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، على عقد جلسات عمل للتفكير والتأمل في فحوى كتاب تزو التاريخي فن الحرب، بهدف تطبيقها في جميع مجالات التجارة، نفس الحال قامت به الشركات الصينية بتطبيق مبادئ كتاب تزو في عملية غزوها للأسواق الخارجية العالمية، إضافة إلى ذلك وحينما قابلت كوريا الجنوبية ضغوطاً خارجية عنيفة، من أجل تحرير سعر صرف عملتها، وفتح أسواقها أمام التجارة العالمية، ما لبث أن قامت سيول باللجوء إلى نصائح كتاب فن الحرب، حيث طبقت الاستراتيجيات التي حفل بها الكتاب في معركة التجارة الحرة، وكل ما ورد يجعل كتاب صن تزو واحداً من أهم المخطوطات التاريخية القديمة في تاريخ العالم كله.
كما أثر الكتاب وما به من نصائح دهشة القراء والمفكرين والخبراء على حدٍّ سواء، لما به من دقة بالغة في اختيار الكلمات، وكذلك صلاحيته للتطبيق في كل «مكان وزمان»، إذ إن الكتاب لم يركز على تحقيق النصر فقط، ولكنه ركز أيضاً على تجنب الهزيمة وتقليل وتفادي الخسائر بأكبر قدر إذا كان ذلك ممكناً، ولعل شهرة وانتشار الكتاب ترجع أيضاً إلى إمكانية تطبيق ما جاء به من نصائح وإرشادات، تخص عالم التجارة والاقتصاد والسياسة والرياضة، ومعظم المجالات تقريباً.