محمد سليمان العنقري
بناء محفظة أسهم يعتمد على استراتيجيات عديدة تتناسب مع حالة كل مالك لها من حيث توزيع المراكز وأوزانها، ويقاس الأداء وفق مؤشرات كلاسيكية حيث يحاول من يديرها أن يحقق أداءً أفضل من مؤشر السوق، وقد أسست مدارس عديدة للاستثمار وهناك أشخاص برزوا كأيقونات في عالم الاستثمار بالأسهم مثل وارن بافيت أحد أثرياء العالم والذي يعد مدرسة في أسلوب استثماراته، وهناك طبعاً مؤسسات مالية كبيرة وصناديق سيادية جميعها تتبعها الكثير من صناديق الاستثمار بالأسهم وكذلك الأفراد نظراً لضخامة حجم الأصول التي يديرونها وتأثيرهم الهائل بتوجهات الأسواق، ورغم كل ذلك فإن هذه الكيانات الكبرى لديها أصول خاسرة أو لم تحقق أهدافها لكن التنوع وتغيير المراكز يساعدهم على تحقيق المكاسب عند النظر للمحصلة النهائية لمجمل فرق قيمة بناء المحفظة مابين التكلفة والسعر السوقي الحالي أي لايوجد أحد بمنأى عن الخسارة ببعض اختياراته.
وفي عالم السياسة القائم على المصالح وفن الممكن تظهر الكروت السياسية للدول وكأنها أوراق مالية في محفظة، حيث تقوم على استثمارها في تحقيق مصالحها وأهدافها الرئيسية المتمثلة بالاقتصاد والملفات السياسية والأمن، ويندرج تحتها العديد من المسارات في بناء تلك المنفعة من استثمار تلك الكروت إما بالشراكات وتبادل الاستثمارات والخبرات واتفاقيات التعليم والكثير من المنافع ويأتي بناء المحفظة الاستثمارية بالكروت السياسية وفق إمكانيات كل دولة وما تمتلكه من ثروات وميز نسبية بموقعها الجغرافي أو تقدمها بمجال معين وتاريخها بشراكاتها واستقرارها وتطورها العلمي والتكنولوجي والاجتماعي وموثوقية التعامل معها وفق تجارب لعقود طويلة، وبذات الوقت هناك دول تتجه دائماً لكروت سياسية تستثمر بها لمصالح قصيرة الأمد فلكل دولة توجه وقدرات متباينة في طريقة استثمار مالديها من كروت سياسية تخدم مصالحها والأمثلة كثيرة في عالمنا، اليوم فالصين عندما أطلقت مبادرة طريق الحرير عام 2013 استثمرت كروتها بدورها الكبير في حجم الإنتاج الصناعي العالمي وقيادتها للتجارة الدولية وحجم احتياطياتها المالية الضخمة لكي تعزز من قوة اقتصادها بتنويع أسواقها وعلاقاتها الدولية لتقلص من اعتمادها على السوقين الأوروبي والأمريكي حتى لا تكون تحت ضغط أي رسوم أو عقوبات تؤثر على ناتجها الإجمالي ونموها الاقتصادي خصوصاً أن الغرب بقيادة أمريكا لا يرغب أن تصبح الصين قطباً رئيسياً بالعالم، لكن بكين عملت بصمت وبتوجه استراتيجي منظم ووصلت لمرحلة يصعب جداً التأثير على مكانتها الدولية التي تتوسع وذلك لأنها استثمرت كروتها السياسية المبنية على توجهات اقتصادية بنجاح كبير، ومن الأمثلة أيضاً ما تمتلكه تركيا من كروت وظفتها لمصالحها فقبل أيام صرح الرئيس أردوغان بأن أوكرانيا تستحق أن تكون بحلف الناتو ومن المعروف أن سبب حرب روسيا الرئيسي عليها هو المخاوف من انضمامها للحلف فتركيا لعبت دوراً وسيطاً لإنهاء الحرب أي بقيت هي الدولة الوحيدة من حلف الناتو على مسافة جيدة من طرفي النزاع تسمح بدور وسيط وكانت مقبولة جداً أن تلعب هذا الدور من قبل روسيا بل ولديها علاقات اقتصادية قوية معها فالتصريح الذي أطلق استفز روسيا والتي ردت على ما ذكره أردوغان بأن بوتين سيزور تركيا الشهر القادم بأنه لا جدول محدد لأي لقاء بين الرئيسين وكذلك اتصل وزير خارجية روسيا بنظيره التركي منتقداً ساح أنقرة لقادة كتيبة أزوف الأوكرانية بالعودة لبلادهم مبيناً أن ذلك مخالف لاتفاق بينهم فلماذا حدث هذا التحول المفاجئ من تركيا ضد روسيا فهل شعرت أنقرة أن ضعفاً كبيراً تمر به موسكو بعد تمرد فاغنر وتأثير العقوبات الغربية عليها وعدم حسم الحرب سريعاً التي قاربت على إكمال عام ونصف منذ اندلاعها فرأت تركيا أن تلعب بكرت مرحلي تستفيد به بتفاهمات جديدة مع روسيا حول مصالح تخدمها أكثر وكذلك رسالة للغرب وأوروبا تحديداً بأن يفتح الباب من جديد لضم تركيا للاتحاد الأوروبي فهي بأمس الحاجة لذلك حتى تعالج مشاكلها الاقتصادية جذرياً وتتغلب على التضخم الذي قارب الـ 40 بالمائة بالإضافة لوقف نزيف العملة التركية حيث بات كل دولار يعادل 26 ليرة ولا أحد يستطيع توقع أين ستستقر أسعار صرف العملة التركية وهو ما يربك المستثمرين والمستهلكين في تركيا. فكل هذه الاحتمالات مجرد تساؤلات ظهرت في وسائل الإعلام عالمياً لأن التصريحات والقرارات التي توالت كلها في سياق غير متوقع بهذه المرحلة على الأقل، وبالمقابل فإن تركيا تخلت عن كروت وجدت أنها خاسرة مثل تعزيز وتحسين علاقاتها مع الدول العربية والتخلي عن سياسات سابقة أضرت بتلك العلاقات والتخلص من كل الكروت التي يضر بقاؤها على العلاقات مع المحيط العربي فهي وجدت فيها كروت خاسرة وبنفس الوقت أصبح الاحتفاظ بها مضراً وسبباً بتفويت فرص أفضل وذات أمد طويل.
الإسقاطات في حياتنا على سوق المال عديدة والسياسة وكروتها ليست ببعيدة عن محاكاة طرق تحرك الأسواق المالية وكيف تقرأ توجهاتها وآلية بناء المراكز فيها فالعلاقات الاستراتيجية والتحالفات العميقة هي بمثابة الاستثمار الطويل الأمد بينما استغلال ظروف آنية للاستفادة منها مؤقتاً أشبه بالمضاربة وبذلك تكون المغامرة مرتفعة لدى الدولة التي تركز على النظرة القصيرة الأمد بعلاقاتها ومن الصعب أن تحقق مكاسب مستدامة أو استقراراً اقتصادياً لأنها لا تبني مراكز على أساس استراتيجي مدروس وبذلك تكون المحفظة متقلبة بشكل كبير والعلاقات مع الدول متذبذبة والمكاسب محدودة.