أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: التربية التعليمية هي المفتاح لتنوع المعارف وتواشجها، وتحصيل ملكة فلسفة كل حقل علمي بما يختزنه ذهن المثقف ذي المعارف المتنوعة من علاقات ومفارقات تُوسع آفاق المتخصص.. وحسبي في هذه المقالة أن أبث هموماً علمية كتبتها جواباً على سؤال وُجِّه إليَّ قبل سنوات في لقاء صحفي، ونصّ السؤال: «هناك أسباب دون شك أفقدت الأدب الاهتمام الأكبر مقارنة بما كان في زمن مضى؛ فهل كان سبب الانصراف كل هذه السقطات الهشة من شعر وقصة ومقالة ورواية ومسرحية؟ وهل يكون الإنسان بهذه السذاجة مستمراً في التجاوب مع الاضمحلال الفكري؟»
قال أبو عبدالرحمن: والجواب على ذلك أن ما يُطرح شيئ، وما يُقرأ شيىء آخر.. والقارئ يبدأ حاوياً؛ فيدفعه حب الاستطلاع إلى أن يجمع في مكتبته ما هبَّ ودبَّ.. ثم يرتفع القارئ من مجرد حاوٍ إلى فاحص، وأرجو أن يوجد هذا الوعي عند غيري قبل سنِّ الأَشُدِّ؛ لأنه لم يوجد عندي إلا في الكهولة التي تسبق الشيخوخة.. والقارئ الفاحص في هذه المرحلة يزحف ويركض على هذا النحو:
أولاً: أن ينتقي لمكتبته الأمهات من كل فن وإن كان في غير مجال تخصصه؛ فربما احتاج إليها.. والأمهات لغير المتخصص قد تكون واحداً كأجمع كتاب في العروض.. وقد تكون ثلاثة كتاج العروس، ومقاييس اللغة، وديوان الأدب للفارابي في اللغة.. وقد تكون سبعة ككتاب فقهي على مذهب أبي حنيفة، وآخر على مذهب مالك ..إلخ .
ثانياً: أن يثري مكتبته بمعاجم المصطلحات لكل حقل علمي؛ فمدخل كل علم مصطلحات، ولا غناء للقارئ الجاد والباحث عن ذلك.
ثالثاً- أن يثري مكتبته في فنه التخصص كالأدب إلى حدّ الاستقصاء ولكن بانتخاب، ويحذر التراكم من الكتب التقليدية - قديمة أو عصرية - المكررة المباحث؛ فيتعمق في فهرس موضوعات الكتاب وفهرس مراجعه قبل شرائه.
رابعاً: الانتقاء في القراءة ؛ فليس كل كتاب يقرؤه من أوله إلى آخره؛ بل يختار الموضوع الذي يعجبه، فيقرؤه بعمق من أنفس مصدر لديه؛ فلا أُقدِّم مثلاً كتاباً أدبياً لكاتب تراثي - ولا أذكر أسماءً حتى لا أسيئ إلى أحد - يكرر لنا عيار الشعر، والموشح ..إلخ (ولا علاقة لذلك الكاتب بالمعاصرة) على كتاب لمثل الدكتور إحسان عباس رحمه الله.. ولا أقدم مؤلفاً لشادٍ مغمور - وإن كان مبدعاً عميقاً - على أعمال ألفها مثل جبرا إبراهيم جبرا، أو عزالدين إسماعيل، أو محمد غنيمي هلال.. إلخ ؛ فإذا قرأتُ الموضوع الذي يعجبني من أنفس مصدر وأجمعه قراءة واعية: تصفحت تصفحاً الموضوع ذاته في بقية المصادر التي انتخبتها لمكتبتي؛ فألتقط (بالتأشير والتذكير على باطن الغلاف) ما هو إضافة أو متابعة أو معارضة.
خامساً: لا يشتري الغُثاء، وإذا أُهدي إليه تصفحه على عجل، ثم أعطاه أحد الناشئين في بيته، أو جيرانه، ولا يضيِّق أرفف مكتبته.. فإن وثق بقابلية صاحب الغثاء للتوجيه سجل له أهم الملاحظات وكاتبه بها؛ فيكون أدى رسالته العلمية؛ وبهذا المنهج لا تكون سقطات الطرح الأدبي سبباً في نقص الاهتمام الأكبر بأدبنا.. ولا أُسَلِّم بأن الاهتمام الأكبر بالأدب كان في زمن مضى، بل كان اهتماماً بأدب تاريخي معزول عن التطلع.
قال أبو عبدالرحمن: مسؤولية الأديب اليوم أعظم؛ لِيعْبُر الأدبين بحس جمالي، وعمق فكري.. وبقراءة عمق، وقراءة اختزال، وقراءة تصفح، ولا قراءة ألبتة!!.. والتفريق بين ما يطرح وبين ما يُقرأ هو الجواب عن السؤال عن مدى الاستمرار في التجاوب مع الاضمحلال.
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ المعايير في الوجود إمَّا تصوراتٌ وأحكام عقلية في الذات والموضوع، وذلك هو الحق والباطل، وإما سلوكٌ نافع، أو ضار؛ وذلك هو الخير والشر والقيمة في كل ذينك الحق والخير، وإما بهجةٌ أو برودة أو تقزز في النفس إزاء الموضوع، وذلك هو الجمال والقبح والقيمة للجمال.. أما قيمة الخير فلم أعن بها اِكتفاءً بالأدب والأحكام التكليفية من ديننا المطهَّر؛ وإنَّما كانت ثقافاتي وتخصصي فيما يتعلق بقيمتي الحق والجمال تنظيراً، وبقيمة الخير توظيفاً.. وأكثر عنايتي بالدراسات الشرعية تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وأصولاً، والدراسات اللغوية والتاريخية، وكل ثقافة جانبية فهي خدمة لكل ذلك؛ ولتكون دراساتي منهجية صادقة فكرياً فصَّلتُ بين نظرية المعرفة البشرية العامة، ونظرية الحقل المعرفي الخاصة؛ ففي ميدان المعرفة البشرية تكون الدراسات الفكرية من ناحية قيمة العقل، وحدوده ودوره في المعرفة، وضروراته، واحتمالاته، وخيالاته، وأنواع مداركه ووظائفه، وتنظيم طرق الاستدلال؛ وذلك هو المنطق الفكري ولا يراد المنطق منطق (أرسطو) بإجمال، وقد بيَّنتُ في مناسباتٍ عديدة بهذه الجريدة ضلاله وفضوله في مسائل جوهرية مثل: القياس المنطقي؛ وإنَّما المراد المصطفى من منطق (أرسطو)، واستخلاص البراهين التي عليها قناعة العقلاء منذ فجر البشرية في مباحثهم ومحاوراتهم استشهاداً بالعقل المغروز فينا.. وفي ميدان المعرفة الخاصة يبدأ التأصيل باشتقاق نظرية الحقل المعرفي الخاصة من نظرية المعرفة البشرية؛ لينتظم الفكر، ويحصل الاختصار بالرد إلى المسلمات مثال ذلك المعرفة الشرعية التي نأخذ منها مراد الله منا في أوامره ونواهيه، وحقيقة التصور وفق المراد الشرعي فيما وقع أو سيقع مما ورد به الخبر الشرعي؛ فالمؤصل للمعرفة الشرعية مستغن بما فُرغ منه في نظرية المعرفة البشرية من دور العقل في المعرفة، ثم ما فُرغ منه في أصول العقيدة من ضرورة الشرائع، وعصمتها؛ فيكون مجال التأصيل تحقيق الثبوت والدلالة، والتقعيد لكيفية استنباط الدلالة من الخطاب الشرعي وجناحاً الاستنباط الفكر واللغة، وقد بينت في أول مسائل كتابي (من أحكام الديانة) الفضولي من الضروري من مسائل أصول الفقه.
قال أبو عبدالرحمن: هذه قصة قيمتي الحق والخير، والمعايير منهما من الثوابت، والقيمة الثالثة القيمة الجمالية وسيلة وغاية؛ فالممارسة العلمية لا تكون موصلة، ومؤثرة، وذات جاذبية إلا بالعناصر الجمالية، والتذوق الجمالي، وتربية الحاسة الجمالية بأرقى النماذج في الموضوع، وإشباع غريزة الإحساس الجمالي بكل ما هو دون المحرَّم كل ذلك يريح ملكات العقل، ويكسب الذهن حدة ونشاطاً، ويطبع اللسان والسلوك على الأجمل والأحسن.. وفي ميدان الدراسات الأدبية ما أنجزت منها، وما أنا بسبيل إنجازه على مستوى الشعر وحسب: اتخذت منهجاً فريداً؛ ولا أقول ذلك ادعاءً، ولا افتخاراً، ولا تزكية للذات؛ وإنَّما أخبر عن حقيقة نافعة للدعوة إليها لا الافتخار بها؛ وهذه المنهجية تقوم على ثلاثة أركان لا أكاد أعرف مدرسة أدبية جمعت بينهن، وأخلصتُ الوفاءَ لهن: الركن الأول نظرية معنى النص، وقد أقمتُ ذلك على أصول الظاهرية، وحقيقة هذا الركن ألا تسقط من النص شيئاً من معناه، وألا تحمّله ما لا يحتمله، وأن يكون القياس لتحليل المعنى الكلي للنص الوفاءِ بكليته من غير إسقاط، أو إضافة وقد أنجزت من ذلك تحليلي لقصيدة (أبي العلاء) الرائية التي طبعها النادي الأدبي في (جازان)، وتحليلي لقصتي: (بنات آوى وعرب)، و(مستوطنة العقاب) لـ(فرانز كافكا)، والسفر الثاني من كتابي (مبادىء في نظرية الشعر والجمال) وقف على ذلك.. والركن الثاني نظريةُ النقد التعاوني الجمعي، للإحاطة بالتصور للنص ومبدع النص؛ ولأجل استخراج معقول النص معنى المعنى؛ ولأجل التفسير والتعليل بجوانب خارج المعنى ومعنى المعنى تتعلق بالنص ومبدعه، وقد ذكرتُ جوانب من ذلك في دراستي المطولة لِـ (كافكا) المنشورة بمجلة (التوباد).. والركن الثالث نظرية الشرط الجمالي؛ فلا ينتقل النص من عموم القول إلى خصوص القول الفني إلا بالشرط الجمالي، وقد أسهبتُ في بيان ذلك بكتابيَّ (الالتزام والشرط الجمالي)، و(مبادىء في نظرية الشعر والجمال)، ولا أزال أغذي هذا الجانب، وأتابع مستجداته.. وما زاد عن ذلك فهو فضولٌ خارج النظرية الأدبية، وقد بيَّنتُ ذلك غاية البيان في صدر كتابي (العقل الأدبي) الصادر في سفرين عن النادي الأدبي ببريدة في بحثي عن التصنيف الأدبي، وإلى لقاء قادم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -