عبدالرحمن الحبيب
«الترجمة، كتصور تقليدي، هي فن إخفاء المترجم» على حدِّ تعبير الفيلسوف البريطاني جوناثان ري. في المأدبة الأخيرة بمؤتمر «الثلاثة الكبار» لقادة الحلفاء في طهران عام 1943، تم اقتراح نخب للمترجمين الفوريين كعربون شكر، ويُزعم أن تشرشل قال متهكماً بهذه المناسبة: «يا مترجمو العالم اتحدوا، ليس لديكم ما تخسرونه سوى جمهوركم»، باعتبار أن لا جمهور لهم. بعدها بثمانين عاماً أثارت الكاتبة والشاعرة يلين وانج، في معرض القرن الخفي بالمتحف البريطاني الشهر الماضي، ضجة جعلت أعمال المترجمين في دائرة الضوء بعد أن قالت إنها لم تحصل على أي تقدير أو تعويض عن ترجماتها لعمل تشيو جين. إدارة المتحف اعتذرت واصفة ذلك بأنه خطأ غير مقصود، وأزالت القطع من المعرض وعرضت على وانج مبلغ 150 جنيهًا إسترلينيًا مقابل وقت عرضها. لكن وانج اعتبرت الاعتذار فارغًا وطالبت المتحف بشرح بروتوكوله الخاص بالسعي للحصول على أذونات حقوق النشر وتحديد الخطأ الذي حدث.
قالت وانج للمراسلة الفنية نادية خمامي: «من المهم حقًا احترام عمل المترجمين، الذين غالبًا ما يتم شطبهم في مجال النشر والأوساط الأكاديمية.. يتجاهل الناشرون وضع أسماء المترجمين على الأغلفة، وينسى مراجعو الكتب تسمية المترجمين، وهذا يحدث الآن.. الترجمة فن، ويستغرق الأمر وقتًا طويلاً لترجمة القصيدة مثلما يتطلب الأمر بالنسبة لي لكتابة قصيدة أصلية باللغة الإنجليزية. يجب أن أعمل بجد للبحث عن الشاعر، والأوقات التي يعيشون فيها، والأشكال الأدبية التي يعملون فيها، ثم إيجاد طرق إبداعية لنقل روح عملهم باللغة الإنجليزية. يحتوي الشعر الصيني الكلاسيكي على العديد من التعبيرات الاصطلاحية الثقافية، والألفاظ القديمة، وتراكيب نحوية وقواعد مختلفة تمامًا عن اللغة الإنجليزية».
نادرًا ما يحصل المترجمون على حقهم من التقدير، رغم بعض الاستثناءات مثل ما قام به المشرفون على جائزة بوكر الدولية للرواية بتقسيم الجائزة المالية بالتساوي بين المؤلفين ومترجميهم عام 2016. المترجمة الحائزة على جائزة بوكر جينيفر كروفت أكدت أنها لن تترجم أي كتب أخرى ما لم يكن اسمها على الغلاف، وتقول: «لا يقتصر الأمر على عدم الاحترام لي، بل إنه يسيء أيضًا إلى القارئ، الذي يجب أن يعرف من اختار الكلمات التي سيقرأها». هذا التوجه تحول إلى حمله مما حدا ببعض دور النشر إلى وضع اسم المترجم على أغلفة الكتب وليس فقط على الصفحة الداخلية.
إذا كان العمل الأصلي إبداعًا، فترجمته لا تخلو من الإبداع خاصة إذا كان النص الأصلي عملًا أدبيًا أو فلسفياً، لكننا قلما نقرأ أسماء المترجمين أو نعرف اسم مترجم واحد كمبدع. لعل السبب الرئيسي في إهمال اسم المترجم هو أننا نعتبر أن الترجمة مجرد نقل للنص، والمترجم مجرد ناقل لعمل غيره. الآن في العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي أصبح المترجمون تحت ضغط هائل مادياً ومعنوياً، إذ تنافسهم الترجمة الآلية الإلكترونية، رغم أن هذه الأخيرة قد تكون ناجحة في النصوص التقريرية لكنها لن توصل العمل إلى مبتغاه في النصوص الإبداعية مثل الشعر أو العقلية المعقدة مثل الفلسفة.
المعضلة الأكبر التي تواجه المترجم يوضحها جوسي جاسيت، الفيلسوف الإسباني: «إن كلمتين في لغتين لا تكونان أبدًا ترجمة دقيقة لبعضهما البعض. أكثر من ذلك، ومع ذلك، لا يوجد شخصان يقصدان نفس الشيء بنفس الكلمة (مع استثناء محتمل لبعض المصطلحات العلمية). الترجمة، إذن، هي مسعى «طوباوي»، فعل مستحيل لقراءة العقل بشكل مثالي. هذا لا يعني أنه لا ينبغي المحاولة، ولكن أولئك الذين يحاولون يجب أن يكونوا «طوباويين جيدين» يعرفون أنهم لن ينجحوا أبدًا.» ولعلنا هنا نستذكر المقولات الشهيرة للجاحظ عن الترجمة، وشروطه الصارمة في الترجمة، مثل أن المترجم لا يستطيع نقل المعنى الدقيق للنص الأصلي نقلا أميناً إلا إن كانت معرفته مساوية لمعرفة مؤلف النص الأصلي في ذات الموضوع.
الفيلسوف جوناثان ري يصف المترجمين بطريقة تراجيدية، قائلًا: المترجمون لديهم عادة، وهي الشعور بالأسف على أنفسهم. ليست فقط لأن ترجماتهم تباع بثمن بخس؛ ولا أن أعمالها ينظر إليها باستخفاف؛ بل بالشك في هويتهم الإبداعية. لا بد للمترجمين من إنكار أنفسهم وأسلوبهم في الكتابة وعباراتهم الخاصة كأشباح أو كمزيفين. مترجمو الفلسفة مطالبون أن يكون لهم أسلوب الفيلسوف الذي ينقلون عنه، ومترجمو الروايات مطالبون أن يكون لهم أسلوب الروائي، والشعر أسلوب الشعراء، وهكذا؛ لكن المترجم ينبغي أن لا يكون له أسلوبه في الترجمة. يتوقع من المترجم أن لا يمتلك صفات خاصة به. ينبغي أن تكون روحاً تمحو ذاتها، مكررا بإخلاص حركة صاحب الجلالة النص، لا تزيل شيئًا ولا تضيف شيئًا.
المترجمون يؤكدون أن الترجمة مهارة تتطلب قدرات خاصة، كما يوضح شون وايتسايد، الرئيس السابق للمجلس الأوروبي لجمعيات المترجمين الأدبيين مؤكدًا إن حادثة المتحف البريطاني كانت «مثالًا فظيعًا على تجاوز المترجم، أو التعامل معه كنوع من التفكير المتأخر.. كما نعلم، لا يزال المترجمون في كثير من الأحيان لا يتم ذكرهم في المراجعات وحتى في كتالوجات الناشرين. الترجمات لا تتم من تلقاء نفسها، والمترجمون، مثلهم مثل أي مؤلف، يستحقون حقوق الطبع والنشر والملكية والاعتراف والأجر المناسب».