أحمد المغلوث
عندما سقطت الآنسة «ندى « على ورقة من سعف النخيل في ذلك الصباح الباكر، كانت تشعر بإحساس غريب مشبع بمجموعة من الأفكار القلقة المفعمة بالعديد من التساؤلات. فرغم برودة الجو في هذا الوقت من الفجر، فهي تشعر في أعماقها بحرارة دافئة، تكاد تحولها من نقطة «ندى» رقيقة وشفافة إلى نقطة ماء حارة وملتهبة، وربما سرعان ما تتبخر، فالحرارة في هذا الصيف، خاصة في هذه المنطقة، تحلق عالياً متحدية نسيم الفجر اللطيف. نعم إنها تشعر بذلك وأكثر من ذلك، في اللحظة التي شاهدت فيها واقع المزرعة التي كان نصيبها التواجد فيها، ولكن ما أصعب، ولكن هنا غريب وضعها المؤسف، أنها بائسة بل تكاد تسمع أنين المضخة الكهربائية وهي تسحب الماء من أعمق أعماق «أم الرضمة» لسقيا عشرات المزروعات التي اهتم المستأجر بزراعتها هنا وهناك، تاركاً النخيل في رعاية ما يفيض من مياه المزروعات التي اهتم بها هذا المزارع الأناني، أما النخيل وبحكم تباعدها فكان الله في عونها، إنها عطشى، ولو كان لها فم ولسان لصرخت وعاتبت «المستأجر الظالم»، وراحت الآنسة ندى تقول في نفسها لماذا يحدث هذا؟ لماذا يتناسى هذا المستأجر القميء حاجة النخيل وأشجار الليمون والرمان وغيرها من الأشجار المختلفة، كانت ندى جالسة متربعة وهي حزينة لما تشاهده من واقع مؤسف لهذه المزرعة. وفجأة سمعت حركة أغصان وسعف النخيل يهتز، وهي تكاد تسقط وتنساب من الورقة. تماسكت، حسنت من وضعها ورفعت رأسها الشفاف، وتطلعت إلى أعلى فرأت مجموعة من العصافير، وبعض البلابل في حالة زغزغة وتغريد لا أروع، كان المرح بينهم منتشراً، يعزف معزوفة رائعة أشبه ما تكون بسمفونية أبدعها الخالق -عز وجل- من خلال هذه الطيور الرقيقة والمدهشة، كان المرح بينهم منتشراً وكل عصفور أو بلبل يحاول لفت الأنظار إليه بحركة من منقاره أو اهتزازه لريش جسده، وأحياناً من خلال فرد أجنحتهم.. تطلعت إليهم في حبور وهي تصيخ السمع، ولما يدور بينهم وبين بعض من أحاديث وتغريدات مختلفة. عندما قال العصفور الصغير ذو اللون المائل للأصفر البني. كان الله في عون صاحب المزرعة، لقد وضع ثقته في رجل ليس أميناً ولا وفياً للعقد الذي وضع بصمته عليه. نعم أشعر بحقيقة ما قالته الحلوة «ندى»، فما شعرت به جميعنا شعرنا به، نحن نعتبر من سكان هذه المزرعة، ومنذ أحياها صاحبها لقد كانت أرضاً بوراً وها هي يانعة على الرغم من إهمال المستأجر. لقد توارثنا أعشاشنا أباً عجد، وما زالت أذكر أين ولدت. نعم إنني أذكر أن ولادتي كانت في عش جدتي بلبلة، والتي توفاها الله في مشهد دامٍ، فلقد قام أحد أبناء المستأجر باصطيادها بنباله. ومع أنها أصيبت إصابة قاتلة. فكانت الدماء تغطي ريشها الملون. بل إن والدتي كانت تشاهد المشهد وتروي لنا ما حدث باكية وهي واقفة على «مرزام « مستودع المزرعة، آه.. قالت والدتي: المؤلم أن ذلك الولد الشقي راح ينزع ريش جدتي ريشة ريشة، وسرعان ما أخرج علبة كبريت من جيب ثوبه المهترئ، وجمع بعض الأغصان وسقاط السعف، وأشعل النار فيها، وراح يشوي جسدها، وأكاد أسمع أنينها.. آه يا جدتي بلبلة. ماذا بوسعي أن أفعل؟ حتى الصراخ أو الزغزغة بصوت عالٍ لا ينفع، فالمصاب كبير، وكما يقول «الإنس».. إذا فات الفوت ما ينفع الصوت. ولكن هذا قدرنا نحن العصافير والطيور، هناك من يتلذذ باصطيادنا وأكلنا شوياً أو سلقاً أو حتى فرماً، لنكون كباباً يتلذذ بنا بني الإنسان.. اللهم لا اعتراض.