د.عبدالله بن موسى الطاير
قالت العرب: النار من مستصغر الشرر، وعلى مدى التاريخ سببت زلات لسان، وهفوات وأخطاء صغيرة حروبا مدمرة، وإبادات جماعية وجرائم كراهية. الزلات على وسائل التواصل الاجتماعي، وسوء الفهم العرضي لها آثار كبيرة على العلاقات الدولية، بل وأسهمت في الصراعات وزادت من التوترات.
لعبت الأخطاء الدبلوماسية وسوء الاتصال والاستفزازات أدوارا شائنة في تعميق معاناة البشرية؛ قدح اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914م وزوجته في سراييفو الشرارة المباشرة للحرب العالمية الأولى، وأدخلت برقية آرثر زيمرمان وزير خارجية ألمانيا عام 1917م إلى السفير الألماني في المكسيك أمريكا الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1939م أدى هجوم نازي مدبر ضد محطة إذاعية ألمانية في جلايفيتس إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
على غرار أخطاء الساسة لعبت الزلات الإعلامية وسوء الفهم دورًا في تصعيد التوترات وإحداث الصراعات، وعلى الرغم من أن النزاعات غالبًا ما تكون نتيجة لعوامل جيوسياسية معقدة، إلا أن التفسيرات الخاطئة وفشل الاتصال يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المواقف المتوترة بالفعل؛ فتصريحات السفيرة الأمريكية في العراق أبريل جلاسبي عام 1990م فهمت على أنها الضوء الأخضر لغزو الكويت، واضطلع الإعلام بدور في تأجيج المشاعر التي أدت إلى حروب الإبادة الجماعية في رواندا، وغير بعيد عن الذاكرة المعلومات المضللة حول وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، وإسهام تلك الرواية الخاطئة في الغزو الأمريكي عام 2003م.
اما وسائل التواصل الاجتماعي فلعبت دورًا محوريًا فيما سمي زورا بالربيع العربي، حيث استخدمت منصات تويتر ويوتيوب وفيسبوك ميادين افتراضية لتهيئة الجماهر للخروج إلى الشوارع مسلحين بمعلومات مضللة، واستدرت مشاعرهم بمزاعم، وغيبت عقولهم بوعود براقة، وعزف على وتيرة المظالم الفردية وتحويلها إلى قضايا عامة.
إلى الشرق من الشرق الأوسط، انخرط مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في كل من الهند والصين في دعاية عدوانية متبادلة فاقمت التوترات بين البلدين، وأسفرت عن مواجهة دوكلان العسكرية عام 2017م، وتطلبت التهدئة جهودا دبلوماسية كبيرة. ويستخدم المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون وسائل التواصل الاجتماعي للإدلاء بتصريحات استفزازية أسهمت في تصعيد التوترات بين البلدين مما أدى في بعض الأحيان إلى وقوفهما على شفير الحرب.
توضح الأمثلة القليلة السابقة كيف يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تمنح الأفراد والجماعات والحكومات فرصا غير مكلفة لتصعيد حدة النزاعات وترويج سوء الفهم عند استخدامها بشكل غير مسؤول. المجتمعات المسرفة في توظيف محتوى شبكات التواصل الاجتماعي في قضايا الشأن العام وتوتير علاقات الدول تفخخ العقول والمشاعر بالكراهية وتجعلها جاهزة للانفجار، ناهيك عن تأثيرها على صانع القرار الذي يتحول في لحظة إلى أسير لرأي عام مزيف، ويتصرف وفق إرادة خوارزميات غير رشيدة قادرة على تصوير الشأن العام عروضا مسرحية وعلى تحويل المزاعم إلى حقائق. لا نستطيع في هذه المقاربة تعزيز الأثر الإيجابي لشبكات التواصل الاجتماعي؛ فالرسائل الإيجابية الداعية للاعتدال والتعايش والداعمة للحقائق والمنطق وإشاعة الفضيلة غير رائجة، ولا تجد قبول وشعبية تلك المروجة للرذيلة، والتفاهة، والكراهية، والصدام.
تسهم هذه الحقبة الاتصالية المتطورة في انتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة بسرعة مما يؤدي إلى سوء الفهم والخلافات الدبلوماسية، وتعزز خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي المعتقدات والآراء، حيث يتعرض الأفراد لوجهات نظر متشابهة في التفكير مما يؤدي إلى زيادة الانقسامات بين الدول ومواطنيها، ويجعل القرارات أكثر صعوبة.
وكما أن التلاعب بالرأي العام وزرع الفتنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أصبح وظيفة من وظائف محتوى شبكات التواصل الاجتماعي دون تدبر لمآلات هذا السلوك، فقد أدى انخراط المسؤولين الحكوميين على مستوى العالم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى أخطاء دبلوماسية أو استفزازات وترت العلاقات الدولية وخلقت مناخات مضطربة غير ضرورية.
المعلومات التي كان يموت من أجلها الجواسيس أو الأبطال الوطنيين أصبحت في هذا العصر على قارعة منصات التواصل الاجتماعي، وهذا نذير تآكل الخصوصية المهدد للأمن القومي للبلدان، فالمعلومات المنفلتة عن الخصوصيات المجتمعية والفردية تسلح وسائل التواصل الاجتماعي بذخيرة الدعاية والحرب النفسية، وتسهّل التلاعب بالتصورات العامة كأداة في استراتيجيات الحروب الهجينة بين الدول.
وأخيرا فإن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل تحديا للقنوات الدبلوماسية التقليدية، مما يجعل من الصعب على الحكومات السيطرة على السرد، أو الدخول في مفاوضات سرية، وبالتاي فإن البيانات العامة التي يتم الإدلاء بها على منصات وسائل التواصل الاجتماعي ذات آثار كبيرة على العلاقات الدولية، وتجعل القائمين على تخطيط السياسات الثنائية أو المتعددة في مآزق حقيقية.