خالد محمد الدوس
الموت أو الضيف الأخير (الزائر) الذي يأتي بلا استئذان يذوقه كل إنسان قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (57) سورة العنكبوت، فالموت كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى وعمّر سنيناً.!! فهو هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومشتت القرابات وميتم البنين والبنات، قال الله تعالى: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} (106) سورة المائدة، فلا عجب أن الموت هو (الحقيقة) التي تقف أمامها البشرية عامة عاجزة عن الهروب منه، كما يقول تعالى {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (78) سورة النساء.
إنها سنة الحياة، وناموس الكون، أن نصحوا أحيانا على خبر يدمع العين، ويحزن القلب، ويحير العقل، ويؤثر في النفس برحيل الأقارب والأحبة والأصحاب..
في يوم الثلاثاء الموافق 10-11-1444هـ تلقيت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة العالم الجيولوجي والخبير البيئي والمائي الدكتور علي بن سعد الطخيس عن عمر يناهز 70 عاماً، تغمده الله بواسع رحمته..
تشرفت بمعرفة -فقيدنا الغالي- قبل عدة سنوات إباّن عمله في مجلس الشورى رئيسا للجنة المياه والزراعة والبيئة قبل أن يتقاعد من عمله الحكومي وكيلا لوزارة المياه والكهرباء لشئون المياه، وأمام هذا التراكم العلمي والمعرفي (لأبي سامي) فقد تشرفت حين بدأت في مشروع كتابي «علم اجتماع البيئة» بأن كان من أبرز الداعمين -لكاتب السطور- بتوجهاته السديدة وخلفيته العلمية العميقة في تخصصه كخبير بيئي ومائي بعد أن زودني بمجموعة من الكتب العلمية والمصادر الحيوية التي شكلت إضافة ثرية داعمة في مشروع الكتاب وبعد سنة أو تزيد من البحث والتقصي وكتابة مسودة الكتاب تفضل مشكورا وبكل أريحية وتواضع وتفاعل كريم بمراجعته وتعديل ما يمكن تعديله في السياق العلمي والمنهجي حتى تم الانتهاء منه وطباعته وتوزيعه بحمد الله وتوفيقه.
عرف عن أبو سامي -رحمه الله- قيمه الاجتماعية الأصيلة وشيمه التربوية النبيلة من خلق رفيع وتواضع جم وسمو التعامل والبشاشة العفوية التي كانت لا تحجب تحت أي ظرف مع الجميع، حتى حين كان مسئولا رفيعا في وزارة المياه والكهرباء يتعامل مع الجميع «موظفين ومراجعين» بروح الأدب والقيم الأخلاقية واللطف.. وكان من القياديين المثاليين في إخلاصه وتفانيه وتشجيعه وتحفيزه لزملائه الموظفين خلال فترة عمله الرسمي.. وحتى مع المرجعين كان يشدد على حل مشاكلهم إنهاء معاملاتهم دون تأخير بما لا يتعارض مع الأنظمة والتعليمات والأوامر التي تصدر من مقام الوزارة، وحسب ما يروي -لكاتب السطور- كبير الجيولوجيين بالوزارة - سابقا- الأخ المهندس عبدالعزيز المّطلق.. الذي عاصر الفقيد في عمله ما يقارب (ثلاثين عاما) يقول: كان أبو سامي -رحمه الله- شخصية قيادية إدارية يتمتع بصفات أخلاقية رفيعة محبا للخير وساعيا له فأحبه كل من عرفه وتعامل معه عن كثب إلى جانب إخلاصه وتفانيه في العمل وأسهم بمنهجه الإداري ووعيه التنظيمي في تطوير جوانب كثيرة في الوكالة في فترة عمله الماضية، وكان يحظى بتقدير وثقة الجميع ومنهم معالي الوزير الراحل الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي - رحمه الله- الذي تولى حقيبة وزارة المياه عام (1423) قبل انتقاله لوزارة العمل، وكنت في الواقع محظوظا أن استفدت من هذه المدرسة القيادية البارزة في القيم الإدارية والوعي التنظيمي والشفافية وامتلاك الرؤية ومهارة التواصل الفعال وتقدير الموظفين وتشجعيهم من أجل الاتقان بالعمل وتحقيق الجودة بمفهومها الشامل.
ولد عالمنا الراحل د. علي الطخيس في محافظة الدوادمي غرب منطقة الرياض عام 1952 في بيت علم وأدب وفضل وقد تلقى بعض تعليمه العام في مسقط رأسه لينتقل إلى الرياض ويواصل تعليمه الثانوي ثم المرحلة الجامعية وتحديدا في الجامعة العريقة جامعة الملك سعود فنال شهادة البكالوريوس في الجيولوجيا عام 1974م، ثم زاد طموحه وكبرت تطلعاته نحو نهل العلم والمعرفة حين شد الرحال بطموح كبير ورغبة صلبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل العلم والمعرفة وحصل على شهادة الماجستير من جامعة (ولاية أو هايو) عام 1982م، ثم شهادة الدكتوراه عام 1992 من أعرق الجامعات الأمريكية (جامعة ولاية كولورادو) وكانت رسالته بعنوان (إستراتيجيات إدارة المياه الجوفية في المملكة العربية السعودية، وبعد عودته من الابتعاث الخارجي وهو متسلح بالعلم والمعرفة عين وكيلا لوزارة المياه والكهرباء وشارك في عضوية العديد من الجمعيات والمجالس ومنها عضو مجلس إدارة هيئة تطوير مدينة الرياض وعضو مجلس إدارة الهيئة العليا لتطوير منطقة حائل وعضو مجلس إدارة مركز الأمير سلطان لأبحاث المياه والبيئة والصحراء- جامعة الملك سعود، وعضو مجلس إدارة جائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز العالمية للمياه، وعضو مجلس هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وعضو مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلوم الأرض SSES، وعضو الجمعية الأمريكية لأعمال المياه AWWA كما رأس وفد المملكة في العديد من اللجان العامة في العديد من المؤتمرات والاجتماعات والندوات الإقليمية والوطنية الدولية ومنها رئيس وفد السعودي المكون من وزارة الزراعة والمياه ووزارة المالية ووزارة البترول والثروة المعدنية ووزارة الخارجية ورئاسة الأرصاد وحماية البيئة لجنة التفاوض الحكومية الدولية بشأن التصحر لتطوير اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر عام 1994، كما رأس الوفد السعودي في مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر من عام 1997 حتى عام 2002 م وأحد نواب رئيس مؤتمر الأطراف لدورتي 1999- 2000 على التوالي. كما رأس اللجنة الوطنية السعودية لتطوير الاستراتيجية طويلة المدى لمكافحة التصحر وتخفيف آثار الجفاف في المملكة، كما ترأس اللجنة الوطنية للبرنامج الهيدرولوجي الدولي (IHP-UNESCO). ونائب رئيس لجنة المجلس الحكومي الدولي لـ(IHP). وممثل الدول العربية من 2002، وترأس أيضاً اللجنة الوطنية لترشيد استخدام المياه بالمملكةلعربية السعودية، وبعد تقاعده من منصبه وكيلا للوزارة اختير عضو مجلس الشورى في دورتين (2009 - 2016): نائب رئيس لجنة المياه والزراعة والبيئة، ثم رئيساً اللجنة، كما قدم العديد من الأوراق العلمية والبحثية في العديد من المؤتمرات المحلية والدولية في إطار الندوات وورش العمل حول قضايا المياه والبيئة والزراعة.
والأكيد أن رحيل العلامة البارزة في الجيولوجيا د. علي الطخيس صاحب السيرة الزاخرة بالقيم الإنسانية والعلمية والأخلاقية.. يمثل خسارة لوطننا الغالي بعد أن ترك أعمالاً بارزة، ومنجزات وطنية في مجالات المياه والبيئة.. سائلا الله العلي القدير أن يغفر له ويسكنه فسيح جناته.
(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
وقفة: يرحل الجسد ويبقى الأثر.. والذكر الجميل عمر طويل.