د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
الحمد لله حمدًا حمدًا، والشكر له شكرًا شكرًا، والصلاة والسلام على أشرف خلقه، وأحبهم إليه، محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
فيا أيها الفضلاء، أيها الحجاج الكرام: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
إن المقام مقام شكر، فنشكر الله سبحانه وتعالى، ونحمده وهو أهل الحمد، سبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه.
اللهم أوزعنا شكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
روى الإمام أحمد وأهل السنن أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»(1)، وفي رواية: «إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس»(2)، وفي رواية: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»(3).
ومن الحقائق التي ذكرها الله في كتابه:أن أكثر الناس لا يشكرون.
بل إن من مقاصد إبليس جَعْلُ أكثرِ الناس غير شاكرين لله، خاصة في أعظم أمر وهو إفراده بالعبادة, فيخبر الله سبحانه وتعالى عنه أنه قال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (سورة الأعراف: 17).
فالموحد لله, المبتعد عن الشرك, القائم بدين الله, المؤدي للحقوق هو من أعظم الشاكرين لرب العالمين.
ومن الشكر؛ شكر من فعل معروفاً وأسدى إليك خيراً, قال أبو حاتم البستي رحمه الله: «الواجب على من أسدي إليه معروفًا أن يشكره بأفضل منه أو مثله»(4).
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن نكافئ صاحب المعروف، فإن لم نجد ما نكافئ به فندعو له، قال عليه الصلاة والسلام: «من أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له»(5)، وفي لفظ: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه»(6).
فرسولنا صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نكافئ من أتى إلينا بمعروف, فإن لم نجد فندعو له, فكيف إذا كان معروفه يعم ملايين من المسلمين؟
فالشكر لمن أحسن إلينا مبدأ إسلامي أصيل، وهو من أعلى مكارم الأخلاق وأجلها، وأنتم أهلها-رحمكم الله-.
قيل لسعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: المجوسي يوليني خيراً فأشكره؟ قال: نعم(7).
انظر, مجوسي, لكنه أسدى إليك خيرًا، وصنع إليك معروفًا, ومع ذلك تشكره على فعله مع كونه مجوسيًّا فكيف بالمسلم إذا صنع معروفًا تنتفع به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن باب الفائدة: نبّه سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- على عبارة: «لا شكر على واجب» أنها غلط، بل حتى الواجب يُشكر عليه.
والله عز وجل أمرنا بطاعته، ونهانا عن معصيته، وهو سبحانه شكور؛ يشكر من استقام على أداء الواجب، وترك المحرمات.
أيها الإخوة, يقال هذا الكلام بين يدي موضوعٍ لم ندركه واقعًا -ولله الحمد- لكن قيَّده أهل التاريخ، وسجله أهل السير، من واقع حجاج قد أتوا إلى هذه الأماكن التي أتينا إليها، وأرادوا أن ينعموا بأداء حجهم في أمن، أو أن يَسْلَموا من أذى القائمين على الحج في تلك الأزمنة، وتلك السنين، فرحمهم الله لم يأمنوا ولم يسلموا، ونحن أتينا إلى الأماكن نفسها، لكن الحال التي نحن فيها ليست كحال الذين مضوا.
فحينما يقرأ المنصف الأحداث التاريخية التي كانت قبل دخول الحجاز تحت ولاية آل سعود -رحم الله من مات منهم ووفق الله الحي وزاده قوة في الخير - في دولتهم الأولى، ثم تحت ولاية الملك عبد العزيز الإمام العادل -رحمه الله تعالى-، وما مرّ على كثير من حجاج وقاصدي البيت الحرام، يجد العجب مما جرى لأولئك -رحمهم الله وغفر الله لهم-، ورأى ما نالهم من خوف وذعر، وتضييق وأذى، وأخْذٍ للأموال وتسلط على الناس، حتى ضجَّ كثير من الناس والحجاج بسبب ما لحقهم من رهق وظلم، زيادة على وعثاء السفر وتعب الطريق.
ومن نظر في عدد من الكتب والمؤلفات بان له ذلك:
فقد كتب المستشرق الهولندي «سنوك هركرونيه»- والذي تسمى بعد إسلامه على قول «بعبدالغفار» في كتابه»صفحات من تاريخ مكة»، والذي أظنه أفضل كتاب كُتب في تلك الحقبة التي عايشها، وهي قبل قرنين من الزمان، وقد جاء هنا ومكث ستة أشهر، ورأى واقع الحال ورأى ما يمر بالحجاج من عنت وجور، فسجله في كتابه, وصوَّره تصويرًا جيدًا.
وكذلك من نظر في كتاب: «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للمؤرخ المصري الجبرتي.
وكذلك من قرأ ما كتبه المؤرخ الدمشقي أحمد البديري في: «حوادث دمشق اليومية»علم صدق المقال فيما جرى على كثير من الحجاج من العنت والظلم، وما وقع عليهم من تضييق وتخويف، فقد كانوا يؤدون المناسك لا يجدون أمنًا، بل يجدون خوفًا وهلعًا، سُلبت أموالهم، وضُيقت الطرق عليهم، وهذا واقع، ذكره بعض المؤرخين الذين ذكرتهم لكم..
وهؤلاء المؤرخون ليسوا من المملكة العربية السعودية، فالأول مستشرق هولندي، والثاني مؤرخ مصري وهو الجبرتي، والثالث شامي من دمشق وهو أحمد البديري، جميعهم سجلوا الواقع، وحكوا تأريخ ما عاصروه.
حتى الشاعر أحمد شوقي رفع إلى السلطان العثماني عبدالحميد قصيدة يستصرخه فيها مما وقع على حجاج بيت الله وضيوف الرحمن من ظلم وجور وعنت, وما فُعِل بهم من قِبل مسؤولي الحج قبل دخوله تحت ولاة آل السعود, فيقول عن تلك الحقبة الظالمة:
ضَجَّ الحِجازُ وَضَجَّ البَيتُ وَالحَرَمُ
وَاِستَصرَخَت رَبَّها في مَكَّةَ الأُمَمُ
قَد مَسَّها في حِماكَ الضُرُّ فَاِقضِ لَها
خَليفَةَ اللَهِ أَنتَ السَيِّدُ الحَكَمُ
لَكَ الرُبوعُ الَّتي ريعَ الحَجيجُ بِها
أَلِلشَريفِ عَلَيها أَم لَكَ العَلَمُ
أُهينَ فيها ضُيوفُ اللَهِ وَاِضطُهِدوا
إِن أَنتَ لَم تَنتَقِم فَاللَهُ مُنتَقِمُ
أَفي الضُحى وَعُيونُ الجُندِ ناظِرَةٌ
تُسبى النِساءُ وَيُؤذى الأَهلُ وَالحَشَمُ
وَيُسفِكُ الدَمُ في أَرضٍ مُقَدَّسَةٍ
وَتُستَباحُ بِها الأَعراضُ وَالحُرَمُ
الحَجُّ رُكنٌ مِنَ الإِسلامِ نُكبِرُهُ
وَاليَومَ يوشِكُ هَذا الرُكنُ يَنهَدِمُ
أيها الإخوة .. من الشهود اليوم؟ الشهود أنتم.
أنتم شهودٌ على هذه الحقبة التي نحن فيها.. فاتقوا الله في شهادتكم، واعلموا أنكم مسؤولون عنها.
فقد منَّ الله على أهل الحرمين الشريفين وعلى قاصديهما بولايةٍ ودولةٍ وحكومةٍ سخرت الطاقات، وذللت الصعوبات، وبذلت الجهود، جهودٌ دينية، وجهودٌ أمنية، وجهودٌ طبية، وغيرها من الخدمات.
وسِّعت الجمرات وجعلتْ لها الجسور والأدوار، وهيئت المشاعر لقاصديها, ووفرت فيها وسائل الراحة تنقلًا واستقرارًا، واتسع الحرمان لقاصديهما أضعافًا مضاعفة.
أعمال جبارة، وجهود عظيمة، قامت بها المملكة العربية السعودية بتوفيق من الله وفضله وعونه.
أنعم الله عز وجل بولاة أمر يحرصون على راحتكم، كما حرص آباؤهم من قبل على راحة من كان قبلكم من آبائكم وأمهاتكم، فمنذ قيام هذه الدولة المباركة وهي تسعى على خدمكم, بل المسؤول الأول فيها لقبه «خادم الحرمين الشريفين».
فيا أيها الحجاج الكرام, حينما تنظرون بين الحالين، الحال التي مضت على الناس قبل قيام الدولة السعودية، وحال الناس بعدها، وما قدمته هذه الدولة من جهود توجب الشكر والدعاء، فلا يملك المسلم الصادق إلا الدعاء لولاة أمر هذه البلاد الأحياء منهم والأموات، والشكر لهم والدفاع عنهم.
فأنتم -رحمكم الله- ترون بأعينكم، وتشهدون الأمن والخير بأنفسكم.
هل روَّعكم أحد؟ هل خوَّفكم أحد؟ هل أُهمل مريضكم؟ هل لحقكم جور أو إضرار؟
أجيبوا -رحمكم الله-.
بل الجنود والحرس في خدمتكم، وأنتم ترون ما لحقهم من التعب تحت عين الشمس, وسهر الليل, يبذلون لكم راحتهم بابتسامة ورحمة ونصح.
والمؤسسات تقوم على رعايتكم، والوزارات بذلت طاقتها في العناية بكم، أنواع الخدمات, واختلاف التخصصات قد تم إرخاصه للاهتمام بكم, كل ذلك تحت نظر ومتابعة من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين حفظهما الله وجزاهما عن المسلمين خير الجزاء.
جهود جبارة، وأعمال كبيرة، فالحمد لله الذي أظهر أمننا، ويسر حجنا، وأحسن عيدنا، وكبت حاسدنا، ومن كل ما سألناه أعطانا.
ويكفي والله أن يفخر أهل التوحيد وأهل السنة، بأن يكون حجهم على السنة، لا يرون الشرك، ولا يرون البدع في الحرمين الشريفين ولا في المشاعر، إنما يرون السنة ظاهرةً في كل مكان.
بل قد يكون عند حاجٍّ غبشٌ في عقيدته فيوجه إلى السنة والمعتقد الصحيح، ويكون عنده خطأٌ في حجه فيوجه إلى الصواب، خدمات عظيمة دينية ودنيوية.
لذا فإن ما تقوم به المملكة العربية السعودية تحت قيادة إمامها وقائد مسيرتها خادم الحرمين الشريفين، ومتابعة من ولي عهده الأمين، لهو غاية العز والشرف.
فقد حازوا المجد قيامًا بالإسلام، وحقوق المسلمين، واهتمامًا بقضاياهم، اهتمامًا عظيمًا، ترونه وتسمعونه، وأشياءَ أخرى لا ترونها حتى في أعمال الحجاج، فإن أنتم رأيتم توسعة الجمرات وتوسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي؛ فإني سائلكم عمن يذبح هديكم وكذا الفدية لمن وجبت عليه؟ آلاف الهدايا تُذبح، وفي حدود الحرم، من يقوم بها؟ إنما يخرج الحاج المبلغ المالي»قيمة الهدي أو الفدية» وتتولى الجهات المسؤولة ذبح ذلك وفق الشريعة، فينظر المختص الشرعي هل هذا يجزئ أو لا يجزئ في الهدي، وينظر البيطري هل هو مريض أو غير مريض، ثم بعد ذلك يُذبح في الوقت المشروع، ويُذبح في حدود الحرم لا خارج الحرم، وتُؤخذ الهدايا والفدية بعناية وتعطى للفقراء, وقد استؤجر آلاف الجزارين لذبحها.
أعمال عظيمة، شيء نراه، وأشياء لا نراها.. قد قامت بها المملكة العربية السعودية من دون منّ ولا مزايدة.
فلا بد من شكر من قام بهذا الأمر، شكرًا لله سبحانه وتعالى، فلله در خادم الحرمين الشريفين من حاكم مسدد بإذن الله، قد أحله الله في أشرف موقع، وأزكى عمل، في نصرة التوحيد وإعلاء كلمته، فخدموا بيته وحرمه، وقاصديهما، وقدموا خدمةً من أعظم الخدمات في التاريخ، فهذا مما يوجب أن نحمد الله سبحانه وتعالى.
تذهب إلى الحرم لا تخشى إلا الله، وتقوم بحجك على السنة.
تذهب إلى مزدلفة وقبلها إلى عرفات، تتفرغ فيهما للدعاء، الأكل موجود والشراب موجود، إنما تتفرغ أيها الحاج للدعاء وللعبادة.
وفي منى يقضي الحجاج بقية نسكهم وفق السنة في البقاء فيها ورمي الجمار، وهم مطمئنون آمنون مرتاحون.
فهذه الخدمات هُيئت لهم ويُسرت بفضل الله وإحسانه، مما يستوجب حمد الله والثناء عليه, ثم الشكر والدعاء لمن قام عليها وبها.
وإن من الأعمال الجليلة، ما تقوم به وزارة الشؤون الإسلامية في توجيه الحجاج، فالحاج أهم ما عليه أن يكون حجه على السنة وأن يكون مقبولًا، فما أتى الحاج إلا ليكون الحج مبرورًا، سالمًا من المخالفات والمحظورات.
لماذا دفع أمواله؟ ولماذا تعب؟ ماذا يريد؟
يريد أن يرجع من الذنوب كيوم ولدته أمه، يريد أن يكون حجه مبرورًا، وسعيه مشكورًا، وذنبه مغفورًا، وهؤلاء الدعاة تحت كنف هذه الوزارة هم لتسديد الحاج من أجل أن يكسب ويغنم هذا الأجر العظيم.
فوزارة الشؤون الإسلامية تعين الحاج وتدله وترشده إلى الطريق الذي يؤدي به الحاج نسكه كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ويسلم به حجه من الوقوع في المخالفات، عبر هاتف مجاني يعمل أربعًا وعشرين ساعة, فما تقوم به الوزارة لهو من كبير الخدمات وجليل الأعمال, فجزى القائمين عليها من معالي وزيرها معالي الشيخ الدكتور عبداللطيف آل الشيخ والعاملين تحت نظره خير الجزاء وأوفاه.
وإن من حق ولاة أمرنا عندما نرى هذه الخدمات المقدمة في الحج أن ندعو لهم.
فاللهم سدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده، واحفظهما بحفظك، واكفهمها ما أهمهما، وأعز بهما دينك، وأعلِ بهما كلمتك، وانصرهم بالرعب على أعدائهم، واكبت شانئهم، واجزهم عن الحجاج خيرًا، ومكِّن لهم كِفاء ما قدموه من أعمال صالحة ونفع للإسلام والمسلمين، يا رب العالمين.
كما أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجزيكم أيها العاملون في الحج من جميع الوزارات والقطاعات والهيئات وغيرها خير الجزاء، وأن يوفقكم في أمر دينكم ودنياكم.
وأن يتقبل من الحجاج, وأن يردهم إلى ديارهم وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وأكرر أيها الحجاج -رحمكم الله-:
أنتم الشهود، فانقلوا الشهادة على وجهها، واتقوا الله.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يشكر الخير ولا يكفره.
وأسأل الله أن يحفظنا وولاة أمرنا وبلادنا من كل سوء ومكروه, وبلاد المسلمين.
والحمد الله على تتابع نجاح الحج كل عام ونسأل الله المزيد من فضله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
***
(1) مسند الإمام أحمد (18/ 233) رقم (11703)، جامع الترمذي، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك (3/ 505) رقم (1954)، وقال الترمذي: «هذا حديث صحيح».
(2) المسند (36/ 166) رقم (21846) من حديث الأشعث بن قيس.
(3) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف (5/ 102) رقم (4811).
(4) روضة العقلاء (صـ263).
(5) مسند أحمد (9/ 266) رقم (5365)، سنن أبي داود، كتاب الآداب، باب في الرجل يستعيذ من الرجل (5/ 210) رقم (5109)، سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل (5/ 82) رقم (2567).
(6) سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله (2/ 212) رقم (1672).
(7) الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 315).
**
- عضو غير متفرغ في أمانة التوعية الإسلامية للحج والعمرة والزيارة