د. محمد بن عبدالله السلومي
حينما يتحدث الإنسان أياً كانت ديانته وفكره عن الثقافة فإنه يُعبِّر عن ثقافته المُستمدَّة -غالباً- من دينه وعقيدته أو من أيديولوجيته الفكرية أياً كانت -كقاعدة عامة-، فالأديان والعقائد هي صانعة الثقافات والأيديولوجيات العالمية في غالب أحوالها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وكتاب ناظر (القوة من النوع الثالث - محاولة الغرب استعمار القرية العالمية) يكشف عن جانب مهم من هذه القاعدة، كما يكشف عن هذا التلازم الكبير الموجود في الغرب بين الثقافة والسياسة مثلما هو في الإسلام تقريباً، بالرغم من بروباغندا الفصل الظاهر في الغرب بين الأمرين.
وهشام ناظر المؤلف المفكر المثقف الدبلوماسي (1932 - 2015م) يكرر القول عن الثقافة والهوية وتَلازُم هذا مع السيادة، وذلك في كتابه المذكور الذي يستحق تعدد القراءات والمراجعات.
ويؤكد ناظر في مواضع كثيرة من كتابه على أهمية أو وجوب قبول الغرب للإنسان في أي مكان كما هو بثقافته، وذلك بقوله: «وبعد المعرفة والتلهف للمعرفة، أريد لأبنائي أن يطالبوا بحقهم في حوار إنساني دولي جديد، تلعب كل الأمم دوراً فاعلاً فيه. أريد لهم أن يُطالبوا بحوار مبني على الالتزام بقبول الإنسان كما هو، لا كما يُراد له أن يكون» (القوة من النوع الثالث: ص14)، وهو في الوقت ذاته يطلب من الأجيال ما هو أكثر من المعرفة والمحافظة على الهوية وذلك بقوله: «أن يحموا آليات اختيارهم المستقاة من ثقافتهم الخاصة، والمستوحاة من معالم شخصيتهم المُميزة» (ص14).
وأكثر من هذا الطلب والطموح لناظر، أنه يرى أن النجاح لا يكون ناتجاً عن تقليد ثقافة الغالب، بل يكون بالإبداع بتقديم ثقافته المحلية وقِيَمِه، بدلاً من رفض ثقافة أصحاب القوة من النوع الثالث فقط، وعن ذلك قال: «ويمكن أن تتحقق تلك السيطرة في المستقبل من خلال التركيز على ما تستطيع الدول النامية أن تقدمه بدلاً من البحث فيما يمكنها أن ترفضه» (ص36).
وناظر يتطلع بطموحاته لشباب المستقبل من الأجيال إلى فهم حقيقة الحوار مع الغرب وطبيعته المؤدلجة، وذلك على سبيل المثال بقوله: «إن حوار الشمال والجنوب أو الشرق والغرب مصيريٌ وليس حقيقياً، وإنما هو حوار من طرفٍ واحد (من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب)» (ص37).
وناظر المفكر يُنبِّه كثيراً إلى مخاطر فصل الجانب السياسي عن الجانب الثقافي لدى العالم النامي بثقافاته المحلية حينما يُطلب منهم ذلك، حيث يقول عن هذا: «إن فصل الكيانات السياسية عن الحقائق الثقافية تُفرِّق بنظرة سطحية صناعة القرار عن التجارب المشتقة من النمو الطبيعي والثري للثقافة الوطنية» (ص124).
ويخاطب ناظر مثقفي الدول النامية بما يجب عليهم فعله، حول أهمية التوعية عن القيادة الغربية العرجاء للعالم، وذلك بقوله: «وعلى مثقفي الدول النامية أن يسعوا لجعل المحاولة الغربية المتعرجة لقيادة العالم مفهومة وشفافة بقدر الإمكان. ولابد لهم من استيعاب رياح التغيير الدولية بأكبر قدر ممكن من الدقة في تقدير توقيتها وطبيعتها وشكلها وتأثيرها» (ص28).
وناظر المفكر لم يُغفِل النقد الداخلي لكثير من أصحاب الثقافات المحلية، حيث غياب التفكير النقدي أو ضعفه، موجِّهاً الفرد للطريق المستنير للعمل مع مجتمعه المحلي، وليس الفرد المستهلك والمُقلِّد، وذلك بقوله: «وتعليم التفكير النقدي سَيُعين أبناءنا على رفض شطحات الغرب التي تُعرض بأساليب جذَّابة، ونداءاتها لقبول فردية الغرب السياسية.. فهم سيتعلمون أن الطريق الصحيح للفردية هو الفرد المستنير. وهم سيتعلمون تحليل العملية الديمقراطية ومثالبها، وفوائد الأسواق الحرة ومضارها، وسيعلمون أنه لا يوجد سحر أقوى فعلاً وتأثيراً من الفرد المستنير القادر على التفاعل المستمر مع مجتمعه» (ص173).
دور المثقف الغربي والتغيير
كما أن ناظر يُطالب بفهم عميق للقوة الصاعدة للغرب واستعماره الحديث فهو كذلك يريد وعياً بدور المثقفين في الغرب في تشكيل الفكر والسياسة، وهم الذين يتمتعون بالاحترام في بلدانهم, حينما قال: «على أن أي فهم عميق لهذه القوة الصاعدة يتطلب فهماً للثقافة الغربية إجمالاً. والأهم من ذلك أن الأمر يتطلب وعياً جديداً بدور المثقفين في الغرب في بناء وتشكيل الفكر الغربي، وانعكاس ذلك على المؤسسات والإعلام... ففي المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات غير الغربية تقليد عريق يحترم المثقفين كأناس يُشكِّلون ويُفسِّرون لنا عالَمنا، ويدفعون بنا دوماً لفهمٍ جديد» (ص21).
وحول فهم المفكر ناظر لطريقة التفكير الغربي المؤدلج بأستاذيته للعالم، وأن تجارب الغرب هي ما يُنجِّح أي تجربة حسب تصوراتهم, أكَّد على من أراد التغيير: بأن لابد له من المحافظة على هويته وسيادته من دول العالم النامي، وفهم هذه الحقيقة جاء من التجربة العملية الشخصية، حيث يقول: «ومن خلال عملي مع المستشارين الغربيين، أدركت أنهم قَيَّدوا فهمهم للإنسان وفهمهم للقوة وفهمهم للتغيير في سلسلة من القناعات التي تخدمهم.. وتَمَخَّضَ عن ذلك، أن الطريقة التي صاغوا بها هذا الفهم رَبَطَتهم داخل تصور جديد، بأن التغيير لا يتم إلا تحت ظروف معينة، وضمن أُطر زمنية محددة تنطلق من تجربة غربية بالكامل». (ص23).
وهو يقول عن (الإنسان والقوة والتغيير) وقدرتها على إحداث التغيير من خلال التجارب الخاصة دون تقليد للرؤية الغربية: «إن الطريقة الوحيدة لمواكبة التغيير هي بالاستثمار فيه، وكان هذا أول تصريح لي حول علاقة القوة الإنسانية بالتغيير، ومدى أهمية عبقرية الفرد بحد ذاتها في إحداث التغيير، والتعامل معه بغض النظر عن إمكانات المرء الفردية. وليس على المرء بالضرورة أن يُقلِّد التجربة الغربية لإحداث التغيير، ولكنه بحاجة لأن يبني تجربته الخاصة فيه» (ص23).
ويدوِّن ناظر خلاصة تفكيره في (الإنسان والقوة والتغيير) حول إمكانية التقدم والمنافسة للعالم النامي والثالث أمام القوة من النوع الثالث، بأنها ممكنة بثقة عالية، وذلك بقوله: «ولقد تسارع تفكيري في القوة والتغيير والمؤسسات والإثنية ليتواكب مع الانتشار الهائل للاتصالات الإلكترونية وأنظمة القوى التي تتكون حولها. ولمَّا عُدتُ إلى أفكاري الأولى بحثاً عن تصور أكثر تكاملاً لمفهوم القوة، أصبحت أكثر اقتناعاً أن الفرصة أصبحت متاحة للدول الصغيرة والضعيفة، لكي تستغل إمكانات القوى المضادة لزيادة قوتها» (ص24).
الفصل الثقافي والانفصام
مع الاسترسال في أفكار ناظر وطرحه أهمية التلازم بين الهويات الثقافية والسياسية للدول النامية، يلحظ القارئ حجم ما تبذله دول القوة من النوع الثالث من جهودٍ لتحييد الأنظمة السياسية المحلية للدول عن ثقافاتها, بتفاصيل كَتَبَها ناظر لا يسمح هذا الموضوع المحدود باستعراضها، ولكن مما قال حول هذا الواقع العالمي عن نادي الأقوياء والقوة من النوع الثالث مع الدول النامية: «المفارقة أن هذه الجهود لتحييد الأنظمة السياسية ثقافياً لا يمكن لها إلا أن تُؤجِّج حدة الصراع الثقافي والسياسي بين الأمم وداخلها. فلنتصور تأثير ذلك على الدول النامية التي يبدو أنها قَبِلَت هذا الفصل الضحل بين السياسة والبعد الثقافي» (ص27).
وناظر الذي يرى أن الغرب بسياسة الفصل بين السياسة والبعد الثقافي للعالم النامي يُريد من ذلك بقاء أستاذيته الثقافية، لكنه سيواجه مخاطر أكثر بعدم ضمان النجاح مع المُستهدف من الدول النامية والعالم الثالث؛ لأن هذا التهميش لثقافات الآخرين لا يمكن أن يستمر، فهو يقول: «ولكن فصل السياسة عن البعد الثقافي كاستراتيجية غربية للحفاظ على الاستثنائية ستخلق دون شك القوة المضادة بدرجة كبيرة. ولأن الغرب اختار أن يُقلِّل من أهمية البعد الثقافي تصبح السياسات والقوة الإنسانية والتغيير وكل العملية الإنسانية مُشوَّهة، ولا يمكن على أثر ذلك ضمان النجاح الغربي فيما استهدفه على أي حال» (ص27-28)، بل إنه يقول عن نتائج استخدام هذه القوة: «كل استخدام للقوة يخلق قوة مضادة حتى من أصغر الدول» (ص25).
والحقيقة أن هشام ناظر المفكر لا يكتفي بالتشخيص للغرب أو التوصيف للقوة من النوع الثالث بقدر ما هو غيور على العالم النامي والعالم الثالث كما يسمونه، وبطرح ما يجب على هذا العَالَم أن يفعل مع هذه الاستثنائية الغربية, حيث الحق المعرفي حق للجميع، يُستمد من الكنوز الثقافية المخزونة لجميع الدول، وهو يؤكد أن الخطاب الأحادي الغربي يؤدي إلى الغبن السياسي حسب قوله، ومن ذلك قوله: «ولا يمكن تحقيق الديمقراطية الحقيقية، واتفاقات حقوق الإنسان وحماية البيئة، وتطويع السيادة إلا من خلال حوار دولي حقيقي، إذْ أَنَّ على كل الدول مجتمعةً أن تُعيد تدوين حقوق الإنسان وحرياته، ووضع حدود دنيا للحالات التي تسمح بتدخل المجتمع الدولي في شؤونها الداخلية، وأن يكون هذا التدوين مُستمداً من الكنوز المخزونة في الأبعاد الثقافية للدول جميعها، وليس مقتصراً على الدول الكبرى الغربية وحدها» (ص30-31).
والحقيقة أن كتاب (القوة من النوع الثالث) يكشف للقارئ كم هو مثير وحري بالنقاش محاولات الفصل بين السياسة والثقافة خارج نطاق دول الغرب, ثم ما حجم غيرة المؤلف على بلدان العالم النامي لتعيش بمساواة وعدالة مع بعضها البعض، حينما تُستمد حقوق الإنسان -كأنموذج- من الكنوز المخرونة في الأبعاد الثقافية لها، دون احتكار الدول الكبرى لهذه الحقوق والمفاهيم التي يُراد استبعادها من البعد الثقافي المحلي للدول والمجتمعات والشعوب والحضارات الأخرى.
وبهذا العمق الفكري في التشخيص والطرح المعرفي في فهم المنظومات الغربية وحقيقة أدواتها حظي الكتاب بتقريظات متعددة، ومن ذلك ما كتبته الأستاذة المشاركة في كلية العلوم السياسية بجامعة فلوريدا الدولية بميامي شيريل روبنبرغ cheryl a. rubenberg حول نتائج الكتاب: «الكتاب يحوي بين دفتيه أكاديمية صاحبه وفكره.. فهو يرفض الأنظمة الغربية وخطابها السياسي، ويجادل لمصلحة رؤى مختلفة وخيارات مختلفة تسمح بتعددية الرؤى من ثقافات مختلفة.. وقد نجح بما يستحق الإعجاب في كليهما. فالقوة من النوع الثالث كتاب تحليلي قوي ومثير»(ص10).
كما أن الأستاذ محمد عمر العامودي أحد رفاق درب ناظر أكَّد على القيمة العلمية للكتاب وأهمية السيادة الثقافية أو الاحتفاظ بها للدول النامية والعالم الثالث، فقال في تقريظات الكتاب: «ماذا يريد المؤلف من أبناء أمته؟ يريد أن تتقدم هويتهم على كل هوية، أن يطالبوا بحق في حوار إنساني دولي جديد تلعب كل الأمم دوراً فعَّالاً فيه، وهو إذْ يدعو الدول النامية إلى المحافظة على ثقافتها. يؤكد أن ذلك يعتمد على قدر ونوعية مساهمتها الإنسانية بأكثر مما يعتمد على قدرتها على المواجهة والصراع» (ص12)، وقال العامودي اقتباساً من أقوال ناظر: «أريد لهم أن يعلموا أن هويتهم الإنسانية تتقدم على كل هوية.. فالإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يتخيل مستقبلاً وأن يملأ حاضراً بالتخطيط الهادف» (ص14).
ولكل هذه الاعتبارات فإن هذه الرؤية الثاقبة من ناظر تتطلب القراءة أكثر، والكتابة فيها، والتسويق المعرفي لمضامينها بين الأجيال، للتعاطي السليم مع التحولات المحلية والإقليمية والدولية، ولتعزيز الثقة بقدرات الأجيال وثقافتهم التي تحث على العلم والمعرفة وعلى الابتكار والإبداع. والله خير حافظٍ ومُعين.
**
- باحث في الدراسات التاريخية ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث