د.إبراهيم بن منصور التركي
نظمت جمعية الاتّصال الخطابيّ في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1970 مؤتمر البلاغة الوطنيّ، وقد قُدِّمت توصية من المشاركين في المؤتمر تدعو إلى توسيع دائرة البلاغة، لتتضمّن موضوعات لم تكن داخلة في نطاق الدرس البلاغيّ التقليدي، بحيث رأت التوصية دراسة الخطابيّ وغير الخطابيّ، اللغويّ وغير اللغويّ. وذهب المشاركون إلى أنّ البلاغة يمكن أن تَدرس أيّ حدث أو تعبير يسعى إلى أن يغيّر موقفاً أو يصنع سلوكاً أو يبني وعياً. وفي ضوء هذا المنظور سأتناول بلاغة (خطاب المثلية) في الولايات المتحدة الأمريكية للنظر في المقاصد والآثار التي يمكن أن يحققها هذا الخطاب.
لابد من التأكيد بدايةً أن الدعوة إلى المثلية هي خطاب يطرحه اليسار الغربي، فهذه الدعوة هي نتاج التصورات الليبرالية الفكرية والسياسية، وأما اليمين فإن الغالب عليهم رفض المثلية واحترام العائلة التقليدية وتأييد العلاقات السوية بين الجنسين. وسوف أحاول أن أستجلي الآثار التي يطمح اليساريون والليبراليون إلى تحقيقها عبر خطاب المثلية، ويمكن الإشارة إلى أهم الآثار المبتغاة من خلال النقاط الآتية:
1- فرض هيمنة القيم الغربية :
عادة ما يسعى الخطاب الغربي الموجّه إلى الشعوب الأخرى كما يذكر صمويل هننجتون في كتابه (صدام الحضارات) إلى (تغريب) تلك الشعوب وتغييرها، وذلك عبر افتراض أن المجتمع الحديث لابد أن يقترب من نمط وحيد وهو النمط الغربي، وأن الحضارة الحديثة هي فقط الحضارة الغربية (ص115). ويظهر ذلك صراحة في محاولة الغرب إقناع العالم بقيمه ومفاهيمه الخاصة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير ونحوها. وهذه الرغبة التغريبية قد تؤدي كما يقول المؤلف إلى (صدام الحضارات)، وهو ما يحدث هذه الأيام في أوكرانيا.
لقد رفض مجموعة من الدارسين والباحثين في القديم والحديث مثل أفلاطون وكانط وهابرماس وغيرهم بلاغة الإقناع بسبب ارتباطها بسلوك الهيمنة والسيطرة. وهو ما تؤكده باحثتان معاصرتان (سونجا فوس وسيندي جريفين)، حيث تذهبان إلى أن فعل الإقناع، قد ينتج عنه ثلاثة آثار سلبية، أولها: محاولة التحكم والسيطرة والهيمنة، وثانيها: هو التقليل من الآخرين، وثالثها: هو مصادرة حرية الإرادة والاختيار.
هذه الآثار قد تكون مرادة عند الإقناع بالمثلية في الخطاب الليبرالي الغربي، وذلك عند توجيهه إلى الشعوب الأخرى، ذلك أن استعمال هذا الخطاب قد يأتي ليوحي للآخرين بتفوق الغرب القيمي وسطوته المعرفية، بحيث يُستخدم خطاب المثلية بشكلٍ دعائي ليكون أجندة هيمنة قيمية يفرض بها الغرب الليبرالي رؤاه وقيمه على الآخرين.
إن حرق علم المثلية على سبيل المثال يُعدّ (جريمة كراهية)، وقد يُجرَّم من يضع قوانين لمنع المثلية (مثلما حدث مع أوغندا مؤخراً)، لكن حرق المصحف في المنظور الغربي لا يعد جريمة كراهية، وإنما هي (حرية تعبير), هنا تصبح المعايير القيمية في العالم ذات مرجعية غربية خالصة، وتصبح أفعال الآخرين مجرد سلوكيات يُحكم لها أو عليها بحسب موافقتها أو مخالفتها لتلك المعايير.
ثم إنه لابد من التساؤل: لماذا المثلية بالذات؟ لِمَ لمْ تكن المطالبات بحق الحرية الجنسية مثلاً؟ أليس هذا -إن كانوا صادقين في تعزيز الحريات- قد يكون أكثر مناسبة للعالم كله؟ إن الغرب عندما يطالب بالسماح بالمثلية وهو يعلم أن بعض المجتمعات الشرقية تُجرّم العلاقات الطبيعية بين الجنسين (الذكر والأنثى)، فهذا يعني انحيازاً لقيم الغرب وحاجات إنسانه. إنه ورغم رفضنا للمثلية وللحرية الجنسية معاً إلا أن تخصيص المثلية دون غيرها دليلٌ واضح على أن هناك محاولة لفرض منظومة القيم الغربية.
2- تعزيز الهوية الغربية الجمعية:
يتحقّق عبر خطاب المثلية تعزيز الهوية الغربية الجمعية عبر تأكيد تميّز الـ(نحن) في مقابل التقليل من الـ(هم). إن إثارة الشعور بتميزّ الـ(نحن) والتوحد في وجه الضدّ: الـ(هم) يعمل عبر خطاب المثلية على إبراز التمايز بين الطرفين الضدّين: الغرب المنفتح والشرق المتخلّف. الغرب عندما يحاول إقناع الشعوب الأخرى بحقوق المثليين فهو يغرس في شعوبه اختلافهم القيمي وتمايزهم عن غيرهم عبر تكريس (ثقافة الحقوق)، ومن ثمّ يعمل بذلك على تعزيز هويتهم وتماسكهم الاجتماعي.
إن واحدة من أهم من وسائل التوحد والتطابق في الهوية هي اتّحاد القيم، وواحدية الخصم. وهو ما يذكره كينيث بيرك الذي يؤكد إمكانية حدوث اتّحاد في الهوية الجمعية عن طريق إبراز التباين، أي عبر التركيز على ما يوحّدنا، وما يميّزنا في وجه خصمٍ مشترك.
3- تعزيز الديمقراطية ووأد خطابات القمع:
ربما يتّضح ارتباط خطاب (المثلية) بالحرية والليبرالية والديمقراطية الغربية من خلال ما يرِد في كتاب (كيف تعمل الفاشية؟) لجيسون ستانلي، ذلك أن مؤلف هذا الكتاب الذي ينطلق من المنظور الليبرالي يَصِمُ خطاب عددٍ من خصومه السياسيين في أمريكا (الجمهوريين تحديداً) بالقمع والفاشية. ويتّضح من الكتاب أن ثمة بذوراً قد تغذّي القمع والفاشية، فالتصوّر التقليدي للجنس (ذكر وأنثى) يعطي سمات وأدواراً لكل طرف، وكذلك يحدد التصوّر التقليدي للعائلة (المكونة من رجل وامرأة) طبيعة العلاقة بين (الأب) وباقي أفراد الأسرة، حيث إن (الأب) هو صاحب السلطة والقرار داخل الأسرة، في حين تكون الأم وبقية أفراد الأسرة في موقع التابع المحكوم. لهذا قد يؤدي وجود العائلة (التقليدية) إلى شيوع بعض التصورات السلبية، حيث تحدّد الأسرة التقليدية طبيعة المرأة وهامشية دورها في الحياة، كما تعزّز علاقة الهيمنة والقمع بين الأب (الحاكم) وأفراد الأسرة (المحكومين).
إن لدى الليبراليين تصوّراً يرى أن الأدوار التقليدية للذكر، وأن العائلة التقليدية المكونة من رجل وامرأة قد تكون من أسباب التمييز والقمع الإنساني، سواء قمع المرأة، أو قمع الحريات الإنسانية عموماً، وهذا يعني أن العائلة التقليدية والتصور الجندري التقليدي قد يكون هو المحضن الذي ينشأ خلاله هذا السلوك القمعي الذي يصادر الحريات، وينبذ المساواة، ويرفض المشاركة في القرار. ولهذا يناصر بعض الليبراليين في الولايات المتحدة الأمريكية (تحويل الجنس) لدحض التصور التقليدي في الفرق بين الذكر والأنثى، ويناصرون (المثلية) للتخلص من فكرة الطاعة والإذعان والقمع الذي يتربى عليه الإنسان -حسب زعمهم- في العائلة التقليدية عبر هيمنة الأب على الأسرة. إن هذا يعني أن ثمة تصوراً لدى بعض المفكرين والسياسيين الليبراليين بوجود أثر إيجابي يعود على المجتمع – على حد زعمهم- اجتماعياً وحقوقياً وسياسياً يمكن أن تحقّقه دعوات (تحويل الجنس)، والتشجيع على (المثلية)، حيث تعمل هذه الدعوات على وأد القمع وتعزيز الحرية والمساواة والديمقراطية.
4- إشاعة ثقافة حقوقية سلمية :
تعدّ (ثقافة الحقوق) مكوّناً رئيساً في المجتمعات الغربية، ولكنّها إن لم توجّه بذكاء فقد تصبح أحد أسباب تهديد الأمن والسلم الاجتماعي هناك. فمثلاً فكرة مقاومة العنصرية (بين البيض والسود) تُعدّ فكرة مدمرة ربما تؤدي بأي مجتمع تنفجر فيه مثل هذه القضية إلى حرب أهلية. ولهذا يحسُن توجيه بوصلة ثقافة الحقوق هناك إلى مطالبات تعمل على تماسك المجتمع لا تدميره، فمثلا عندما تُطرح حقوق المثليين فإنها قد تجمع السود والبيض معاً تحت قضية واحدة. إن الانقسام الذي يحدث على شكل اختيار وتفضيل شخصي تجاه القضايا المطروحة هو في حقيقته أسلوب (توحيد) لا تفريق، فـ(المثلية) قضية قد يتبناها الأبيض والأسود والرجل والمرأة والآسيوي والقوقازي، وبالتالي تصبح وسيلة توافق اجتماعي رغم كونها ظاهرياً وسيلة تصنيف وتقسيم.
إن ثقافة الحقوق التي تُبنى على أمر اضطراري لا اختياري مثل الدين أو العرق أو اللون.. قد تكون وسيلة تدمير وتخريب. وهنا تكمن خطورة الصراع المبني على اللون كالعنصرية. حيث إن فكرة العنصرية التي تطل برأسها بين حين وآخر في أمريكا بوصفها خطاباً حقوقياً يمكنها أن تدمر الجميع إن لم يتم نزع فتيلها بذكاء، لكن خطاب المثلية هو خطاب حقوقي (سلميّ) بديل أو منافس يمكن أن يوجه البوصلة نحو مكان أكثر أماناً.
5- تشكيل (مجتمع) متجانس :
شاهدتُ في إحدى القنوات التلفزيونية تغطية لمظاهرة أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية تعترض على الترويج للمثلية عند طلاب المدارس، وقد قام بالمشاركة في المظاهرة بعض العرب والمسلمين والمسيحيين المتدينين وبعض الأمريكيين ذوي الأصول الشرقية. لقد كان الجامع الواضح بين المشاركين في المظاهرة هو احتفاظهم بمنظومة قيمية تختلف عن منظومة قيم البلد الذي يعيشون فيه. أي إن هذه المظاهرة قد تشكّلت من تلك المجموعات أو (القطع الصلبة) التي لم تقبل الذوبان في المنظومة القيمية الأمريكية.
هذه القطع الصلبة عندما تتشابك وتتمدّد تصبح في نظر الغرب الليبرالي إشكالاً كبيراً لمجتمعٍ يؤمن بالتعددية والديمقراطية والفردانية. ولذا يُتوقّع أن يؤدي خطاب المثلية إلى (صهر) المجتمع الغربي المحلي الداخلي في منظومة قيمية متجانسة، بحيث تأتي المثلية لتكون بمثابة (المعصرة الكهربائية) التي توضع فيها تلك القطع الصلبة (مثلما توضع قطع البرتقال والتفاح والموز والفراولة في المعصرة، لتحوّل هذه القطع المتمايزة المتفرقة لوناً وطعماً وشكلاً إلى عصير متجانس «كوكتيل»)، هذا يعني أن المثلية قد تسهم في تكوين (مجتمع) متجانس ذي لون وشكل واحد.
إن مجتمعات الغرب تقوم على التعددية والتنوع الإثني والديموغرافي، وتعمل منظومات الغرب القيمية على صهر هذه التعددية في مكون (وطني) واحد، فهي تفعل ذلك فكرياً وسياسياً وقانونياً عبر شعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير والديمقراطية وسيادة القانون.. إلخ، ولكنها قد تواجه صعوبة في توحيد الناس اجتماعياً. ولهذا قد تعمل المثلية على صهر الناس (اجتماعياً) بحيث يصبح المجتمع نسيجاً واحداً، إن لم يكن في الجيل الحالي، فعلى الأقل في الأجيال اللاحقة، وربما لهذا السبب جاء اختيار المدارس.
إن هذه هي أبرز الآثار التي يمكن أن يحققها خطاب المثلية، ويمكن أن يضاف إليها تلك الأفكار الشائعة التي تربط المثلية بالرغبة في تقليص أعداد البشر على الأرض، أو الرغبة في تعزيز الأجندات الانتخابية، حيث يقوم المنظور السياسي الليبرالي على دعم حقوق الأقليات لحشد مزيد من الأصوات المؤيدة له في معركته الانتخابية.
هذا والله تعالى من وراء القصد.