د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أشرنا في مقال سابق إلى شمس الدين التبريزي وحديثه عن العشق، وهو بصفته درويشاً صوفياً متجولاً، يتحدث عن حب الإله، ولاشك أن حب الله هو أعظم حب يمكن أن يحمله الإنسان في قلبه، وأجل حب يتسلل إلى مشاعره، ويعلو على كل حب، كما أن حب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حب عظيم، فهو حب من اختاره البارئ عز وجل لهداية البشرية، ويبقى حب الخير، ومكارم الأخلاق، وفعلها، من أعظم الأفعال التى أمر الله بها عباده، والذين ييسرون أمور الناس إذا ما مكنهم الله من ذلك، سيجد الكثير منهم نشوة سعادة، بسبب حب للخير، وهذا نعمة من نعم الله، قال الإمام الحسين رضي الله عنه: اعلموا إن حوائج الناس إليكم، من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتتحول إلى غيركم.
ما يتحدث عنه شمس الدين التبريزي في حقائق العشق الأربعين، جميلة المعنى، والتعبير عنها رائع، إلا أنه ربما يصاحب ذلك التعبير عنها أمور قد لا تتفق مع ما أمر به الشرع، ففي إحدى الحقائق التي ذكرها، مع شيء من التصرف، أن الله خلق المعاناة ليظهر نقيضها، وهي السعادة، والأشياء تظهر عند ظهور النقيض، وهو محق فيما قال، ولترك قول التبريزي قليلاً، لنستشهد بقول الشاعر دوقلة
قال الشاعر دوقلة المنبجي:
فالوجهُ مِثْل الصُّبْحِ مُبيَضٌ
والشَّعْر مِثلُ الليلِ مُسْودُّ
ضِدانِ لمّا استَجمَعا حَسُنا
والضِدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ
ومن هذه القصيدة الرائعة، قوله:
وَكأَنَّها وَسنَى إِذا نظَرَت
أَو مدنَفٌ لما يُفِق بَعدُ
بِفتورِ عَين ما بِها رَمَدٌ
وَبِها تُداوَى الأَعين الرُّمدُ
والتَفَّ فَخذاها وَفَوقهما
كَفَلٌ يُجاذِبُ خَصرِها نَهدُ
فَقيامُها مَثنى إِذا نَهَضَت
مِن ثِقلِهِ وَقُعودُها فَردُ
ولجمال القصيدة، وروعت سبكها، وما حوته من صور بديعة، ومعاني رفيعة، ولأن قائلها لم يقل سواها، نسجت حولها أسطورة من خيال الوضاع، تذكر أن هناك ابنة أحد الزعماء في اليمن، ذات جمال وبهاء، تزاحم عليها الخطاب، فاشترطت على ألا يتزوجها إلا من يقول فيها قصيدة، ترضى عنها، ولم يقُل مثلها في سواها، فنظمها دوقلة، وذهب إليها، ليلقيها بين يديها، وقد قابله في الطريق أحد الأعراب، فصاحبه، وسأله عن وجهته، وسبب سفره، فذكر له السبب، وأنشده القصيدة، فطلب منه الإعرابي التكرار حتى حفظها، فقتله غدراً، وهو نائم، وذهب إلى والد الفتاة على أنه هو قائل القصيدة، وسألته عن نسبه، فانتسب إليها، لكنها شكت فيه من إدراكها أحد الأبيات التي قالها، وذكر فيه نجد وتهامة، ثم طلبت منه أن يقول بيتاً آخر، فأعياه الأمر، فأمرت بقتله، حيث تبين لها أنه كذاب وقاتل.
أخذنا الاستدلال، إلى ما يزدريه التبريزي ولا يستهويه، فحبه ليس كحب دوقلة المنبجي، ولا مأربه، وغايته كفايته، فحب التبريزي خالص لوجه الله، فهو متعلقٌ بحب البارئ، لا بسواه، ونعود لنقول إنه محق أن تناقض الأشياء، تظهر متعتها، لكن دوام الحال، من المحال، غير أننا نسعى للخير وسنظل، وقال المعتمد بن عباد بعد أن أدخل السجن، وعاش وأسرته في الفقر والذل، بعد عز وترف وجاه، لم يبلغه سواه، قال:
قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلاً
فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيّاً وَمأمورا
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ
فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
نعود للتبريزي، حيث يومئ إلى أن الله جل شأنه، أسمى من كل شيء، فليس له نقيض، فهو الظاهر، والباطن، والمعطي، والمانع، فبيده الملك وهو على كل شئ قدير.
ويقول التبريزي، لا أستطيع أن أغير اتجاه الريح، لكنني أستطيع تغيير اتجاه أشرعتي للوصول إلى غايتي، وهذا كلام في منتهى الدقة والعمق، فالإنسان لا يمكنه تغيير الواقع، غير أنه يمكن أن يتعامل معه للوصول إلى غايته، وهي السعادة، وهذه بلا شك سوف يجدها في محبة الله، والتعلق الصادق بمحبته، وليس نطقاً باللسان فحسب، وكذلك الاستمتاع بذلك الحب، والشعور به في داخلك، والذي يملأ مشاعرك، فيضفي عليك سعادة، لا يمكنك الشعور بمثلها، لأنها محبة أبدية لا تزول ولا تحول، ولا يدخل بينك وبين الله في المحبة غيور، ولا حاقد أو منافس، وتغيير الأشرعة للوصول إلى الغاية التي يعنيها التبريزي ليست تلك النابعة من وصايا ميكافيلي للوصول إلى الأطماع الدنيوية، وإنما الارتفاع بالمستوى في الغاية إلى ما هو أنبل وأسمى، وهو محبة الله، والإخلاص له، وعدم الالتفات إلى الدنيا، وملذاتها، وما يصاحبها من عناء، ونقائص لابد من وجودها للاستمتاع بالجزء المضيئ منها.