كلما تذكرت ما قاله أبو العلاء المعرّي:
«وإني وإن كنت الأخير زمانه : لآت بما لم تستطعه الأوائل»؛ تبادر إلى ذهني أستاذي الفاضل معالي الأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم النملة، وبالذات حينما تولى دفة وزارة الشؤون الاجتماعية - وهذا كان اسمها حينها - أتاها وهي تدور في إطار معين؛ يقدم خدمات خاصة لرعاية فئات محتاجة من الأيتام والمسنين وذوي الإعاقات الجسدية والأحداث الجانحين، بصورة تقليدية -إن نالها تطور ففي المباني وتأثيثها لا في النهج وأدواته - فلما جاء كأنما طوى صفحة سجل قديم، وفتح سجلاً آخر؛ ليبدأ تسطير الرواية بأحرف أخرى ومضامين مختلفة.
فعلى سبيل المثال: أدرك أن المرأة والطفل كليهما يواجه حراكًا اجتماعيًا متسارعًا؛ يجرف بهما -أحيانا - إلى حيث المعاناة والبؤس، وأن علاج هذه الحالات المكلومة متروك لمجالس القضاء؛ تبت فيما يرفع إليها فحسب، أما من توارت معاناته خلف ضعفه وقلة حيلته؛ فليس ثمة سبيل لحلها إلا أن يبدل الله حاله بقدر من عنده. فوجه بإنشاء الإدارة العامة للحماية الاجتماعية -والتي تعنى بتنظيم حقوق الضعيفين: المرأة والطفل - لتمنح الوزارة حق التدخل لمنع التجاوزات على حقوقهما وتصحيح ما وقع من أخطاء عليهما.
ثم نظر إلى أثر هذا التسارع في تبدل الحياة الاجتماعية على العموم وما يخلفه من مشكلات نفسية واجتماعية خاصة لدى الكثير من الأفراد ذكورًا وإناثًا بصورة يصعب الإفصاح عنها لقريب يعرفه ولا يطمئن لعرضها لغير متخصص في حلها فوجه بإنشاء وحدة الإرشاد الاجتماعي التي تعنى بتلقي استفسارات من يعاني من مشكلة اجتماعية أو نفسية يجيب عنها خبراء مختصون في مجالات الشكوى؛ تحاط اتصالاتهم بسرية تامة، عبر مكالمات مجانية لا يظهر فيها رقم اتصال، يتلقون فيها ما يعينهم على تجاوز معاناتهم.
ثم نظر في ركود أرقام احتضان الأطفال ذوي الظروف الخاصة فوجه بتنظيم أول ملتقى لرعايتهم والتعريف بهم وشرُف هذا الملتقى وحظي برعاية كريمة من سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله - إبان توليه إمارة منطقة الرياض تضمن هذا الملتقى العديد من الفعاليات التي رفعت أرقام الاحتضان لتصل إلى ضرورة الانتظار شهورًا للحصول على فرصة لاحتضان رضيع جديد.
كما أن حال الفتية منهم والفتيات لم يرق له أسلوب رعايتهم بالنمطية التي سارت عليها الدور المعنية بهم منذ نشأتها، ولم يكد يطولها تبدل؛ فوجه بخوض تجربة جديدة لرعايتهم من خلال دار الضيافة: وهي نمط استحدثته الوزارة بتوجيه منه يقدم خدمة رعايتهم بصورة تحقق الطمأنينة في نفوسهم، وتمنحهم الانتماء الذي يفتقدونه، والخصوصية التي لم يتذوقوا حلاوتها فتبدل حال الذين حظوا بهذه التجربة الفريدة نفسيًا وسلوكيًا وتعليميًا بشكل يفوق التوقعات.
كما تأسى على تدني حالات الزواج لمن بلغ منهم سن الزواج فوجه بتنظيم إحصاء دقيق لمن بلغ سن الزواج منهم ذكورا وإناثا يشمل هذا الإحصاء كل ما يعين على التوفيق بين اثنين من هذه الفئة ثم وجه بعقد أول احتفال لتزويج الأيتام بعدد جماعي كبير مع تقديم كافة التسهيلات التي تمنحهم -بعد توفيق الله - نجاح هذه الزيجات.
ثم علم أن من بلغ منهم سن الشباب -تزوج أم لم يتزوج بعد - بحاجة للرعاية اللاحقة، وحسن المتابعة والتحفيز؛ ليستطيع العيش في خضم ظروفه الخاصة خارج نطاق الرعاية الإيوائية؛ فوجه بإنشاء المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام التي تعنى بهذا الجانب وهذه الحلقة المفقودة ما يجعل فقدها يهدم كل جهد سابق معهم.
ثم التفت إلى معاناة بعض الأسر والأفراد في مجتمعنا ممن وقعوا تحت طائلة الفقر فسعى لدى القيادة لإنشاء صندوق معالجة الفقر وكان له أثر ملموس في سد احتياج العديد من الأسر ودفعها للاستغناء الذاتي لاحقا.
كما طور العلاقة القائمة بين الوزارة والجمعيات الخيرية، ونزع عنها لباس التوجس، ووجه أن يميل دورها لتكون تنموية أكثر منها رعوية.
وأعاد ترتيب خدمات مراكز التأهيل الاجتماعي وإعادة تنظيم الحالات التي يرعاها؛ لتكون كل حالة في مدينة ذويها أو أقرب إليهم.
والحديث يطول ويتشعب عن لمساته التصحيحية والإبداعية. غير أنه مما لا ينسى أن أزاح عن مكتب الوزير ذلك السياج العاجي الذي كان لا يتجاوزه إلا من يستدعى من الوزير شخصيًا فأتاح فرص الالتقاء به، بل وطلبها بشكل يومي مع الصفوف التي لم تكن تحلم بذلك يومًا، ولم تعتد عليه بل ولربما استوقفه الكثير من المستهدفين بخدمات الوزارة في ممراتها أو عند خروجه من مسجدها وكان يؤكد على ترك العبارات التي تعود الموظفون على استخدامها -هيبة لمن يحدثونه - وكان يردد مقولته التي تشع تواضعًا -لم أعايش مثله :(ما أنا إلا نملة صغيرة فلا تعظموني).ولا شك أن الوزارة حظيت من قبله ومن بعده بمن بذل فيها جهداً يذكر فيشكر ولكل منهم لمساته التي تميز بها، غير أن حديثي عن معالي الدكتور علي جاء لما حظيت به من شرف أن أكون سهماً في كنانته وقلماً في جعبته ولكوني شاهداً على ما ذكرته.
وأخيراً أنا أعلم أن مقالي هذا لو اطلع عليه معاليه لم يأذن لي به ليرى النور؛ لذا أعتذر منه أني لم أطلعه عليه مسبقًا وهذا ما تبرأ به ذمتي من شهادة والله خير الشاهدين.
** **
- مدير عام الإدارة العامة لرعاية الأيتام سابقًا.