عبدالوهاب الفايز
في مقال الأسبوع الماضي توقف الحدث عند هذا السؤال الكبير: ماذا بيد المجتمع للتعامل مع أيديولوجية الشذوذ الجنسي بشكل صحيح؟ هل نحتاج إلى العمل لبناء (منظور إنساني عالمي) يأخذ بالمفاهيم المتعلقة بالجنس، ويختلف عن المنظور الغربي، عبر التدبر في الحكمة الإلهية من وراء التشريعات التي تنظم العلاقات الإنسانية بين البشر؟
بناء هذا المنظور يتطلب ضرورة دفع القوى المجتمعية والنخب السياسية والثقافية ليكون لها دور حاسم ونوعي في المواجهة مع الأيديولوجية الجنسية الغربية. منطلق الحاجة يفرضه توجه الغرب لفرض هذه الأيديولوجية على العالم كورقة للنفوذ والمساومة والتهديد. هذه الورقة يستغلها الغرب لإدارة الصراع بعد اتضاح معالم فشل رأسمالية التوحش المنفلتة، وانكشاف المعايير الغربية المزدوجة في ممارسة الديموقراطية وحقوق الإنسان، وأولها إلغاؤهم لمبدأ حق الاختلاف الذي يعد المرتكز الأساسي لمنظومة حقوق الإنسان العالمية. فالأقليات الملتزمة بالقيم الأخلاقية على وجه الخصوص، والتي لها حقوق المواطنة الكاملة، تواجه بوادر حركة اضطهاد جديدة في أوروبا، وستكون أيديولوجية الشذوذ الجنسي سببًا عمليًا لترويضها وإعادة تهجيرها.
فمن الأفضل أن يتولى قيادة هذا المنظور الإنساني؟
قلنا إنه (القطاع الأهلي الخير)، فهو الأقدر والأسرع والأفضل سياسيًا. الحكومات ستكون عليها ضغوطات ومساومات، سواء من الحكومات الغربية أو من منظمات الأمم المتحدة التي تم اختراقها وتوجيهها من الليبراليين المتطرفين المناضلين عن قناعة لأجل فرض أجندة المثلية الجنسية. الحكومات تحتاج إلى القوى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية لمساندتها في الدفاع عن شعوبها من مخاطر هذه الأيديولوجية الجنسية.
وفي مقال الأسبوع الماضي أشرنا إلى محاضرة كارل الطوبجي، الباحث المتخصص في هارفرد وغيرها، بعنوان (الإسلام في مواجهة المثلية)، حيث استنتج أن المثلية هي (بمثابة مشروع استعماري، فهي تمثِّل نوعاً جديداً من الاستعمار الفكري غير القابل للتفاوض، فعلى العالم كله أن يخضع له، وفقاً للعقيدة الاستعمارية التي تذهب إلى أن «الغرب هو الأفضل أو أن الغرب يعلم الأفضل»).
وثمة وقائع تدعم هذا الاستنتاج، فالتطبيقات لهذه العقيدة السياسية الليبرالية المتطرفة التي تدعمها الدول الغربية بدأت تتضح الآن. في وقت سابق من هذا العام، طلبت حكومة الولايات المتحدة رسمياً موافقة الحكومة الجامايكية لتوسيع نطاق الحصانة الدبلوماسية والامتيازات للشريك المتزوج لدبلوماسي مقرر تعينه في جامايكا. الدبلوماسي وشريكه في علاقة شاذة، والزواج بين الشاذين جنسياً غير معترف به في جامايكا، لذا تم رفض الطلب. والحكومة الجامايكية تنتظر التدابير الدبلوماسية العقابية التي قد تتخذها حكومة الولايات المتحدة.
المنظور الإنساني لمواجهة هذه العقيدة يتحقق عبر بناء نموذج عمل عالمي له إطاره المحدد وأهدافه الواضحة لطرح الموقف الديني والأخلاقي والسياسي الذي يقابل عقيدة الشذوذ الجديدة بالحجة والبرهان. ولنا بمجتمعاتنا في كتاب الله وسنة نبيه ما يدعم الموقف الأخلاقي والعقلاني الذي يراه الإسلام لأهمية الأسرة في المجتمع، فالمجتمعات وحدتها وانسجامها وسلامها الاجتماعي والاقتصادي لا يمكن عزله عن الدور الرئيسي الذي تقوم به الأسرة، فهي الحاضن الأول للتربية ولتكريس منظومة القيم، والأهم: هي التي تقدم الأمان الشامل للأبناء.
والمقاومة القوية التي نراها تنمو في العالم ضد هذه الأيديولوجية الخطيرة، تنطلق من هذا الخوف والحذر الشديدين على منظومة القيم الاجتماعية. فالحروب الثقافية وصراع الهويات التي نراها الآن استهدافها الأول هو الأسرة، وهو بداية خلخله المجتمعات. هذا الذي تريده الدول المتسلطة في النظام الدولي المعاصر. إنها حروب وجودية ثقافية يتحقق الانتصار فيها بأقل الخسائر.
وصراع الثقافات والهويات بدأته أمريكا، وهو مصدر تهديد حقيقي للمجتمع الأمريكي الذي سيكون الضحية الأولى. هنا سبق تناول الدراسة السياسية المقارنة التي نشرها أستاذ العلوم السياسة الأمريكي سكوت هيبارد، في كتابه الذي يتناول استخدام السياسة الدينية في الدوله العلمانية، وهي دراسة مقارنة لمعرفة أثر استخدام الدين والقضايا الثقافية الخلافية على الوضع السياسي للدولة، طبقت على الحالة في الهند ومصر والولايات المتحدة الأمريكية، وتم اختيار هذه الدول كنماذج مثالية للحداثة العلمانية.
لذا ظلت الحملات الانتخابية، كما يقول المؤلف هيبارد، منذ عهد نيكسون تبتعد عن القضايا الجوهرية للمجتمع الأميركي، والرئيس ريجان اتجه مباشرة لاستقطاب اهتمام الشعب الأمريكي بالقضايا الثقافية والاجتماعية تحاشيًا لطرح الإشكالات الطبقية والاقتصادية كأساس لعملية التصويت، مع التركيز على القضايا الاجتماعية المسببة للشقاق كأساس للحشد الشعبي، وتبني خلط المسيحية المحافظة بالوطنية كإستراتيجية للحزب الجمهوري.
وهذا التجاهل المتعمد، كما يقول، للقضايا الأساسية الذي استهدف غرس مجموعة من القيم الدينية داخل مؤسسات الدولة والأمة، أدى إلى تصاعد وتعمق المشاكل الحقيقية للاقتصاد الأميركي فالخطاب السياسي المؤدلج أسهم في التشويش على رؤية التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحقيقية التي تواجهه الدولة.
وهذا حالياً ما نراه في أمريكا، فصراع القوى السياسية يدور حول عوامل اجتماعية وثقافية. الانقسام الأكبر بدأ حول الإجهاض، ويتسع الآن ليشمل قضايا جديلة مثل تدريس الشذوذ الجنسي للأطفال، وتدريس تاريخ الأمة، بالذات ما يتعلق بحقوق الأقليات مثل الأمريكان من أصول افريقية. والقائمة تطول، ووسائل التواصل الاجتماعي سهلت تازيم القضايا وقلصت مساحات الصدام بين الجماهير والنخب السياسية والفكرية.
في هذا العالم المضطرب وفي هذه الأوضاع المدلهمة.. يبقى السؤال العملي: ماذا يقدم القطاع الثالث بكل مكوناته لمساعدة ودعم الحكومات ضد أيديولوجية الشذوذ الجنسي؟
مرونة وسرعة المبادرة من إيجابيات القطاع الثالث، ويضاف إلى هذا استقلالية القطاع، وهذه الميزة هي ميدان المساندة للحكومات. الحكومات الغربية ذات التوجهات الليبرالية الديمقراطية أدخلت القطاع الخيري لقيادة الاجتماعات الدولية المرتبطة بالقضايا الإنسانية والاجتماعية، واستثمرت تجاربها في إشراك القطاع الثالث في بلورة القرارات وتوجيه المصالح.
وأحد أبرز منظمات القطاع الثالث الموجودة على الساحة الدولية حالياً ما يُسمى «فرسان مالطة أو نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي من رودس ومالطة. وهي منظمة كاثوليكية علمانية تأسست أولاً باسم فرسان الإسبتارية في حوالي 1099 في مملكة بيت المقدس، ومقرها في قصر مالطا في الفاتيكان. وتعتبر على نطاق واسع ذات سيادة حسب القانون الدولي. فلدى المنظمة علاقات دبلوماسية مع 103 دول منها 8 دول عربية (الأردن، السودان، الصومال، جزر القمر، لبنان، مصر، المغرب، وموريتانيا)، وما يزيد عن 28 دولة إسلامية. وللمنظمة بعثات دائمة لدى العديد من المنظمات الدولية.
وإحدى المهام الأساسية للفرسان دعم الوجود المسيحي في الأراضي المقدسة، ونشاطها الأساسي المعلن يقوم على جمع التبرعات وإنفاقها على مساعدة الدول المضيفة لها ببرامج خدماتية خيرية طبية بالإضافة إلى الهدف الأساسي ألا وهو حماية الحق المسيحي في الحج إلى أورشليم القدس».
فما الذي يمنع من بناء منظور إنساني عالمي لمواجهة طوفان أيدولوجية الشذوذ الجنسي على غرار منظومة فرسان مالطة؟ فالمسارات أو البرامج التي يمكن تفعيلها عبر منظمات القطاع الثالث، لبناء منظور أخلاقي إنساني عالمي وبرامج عمل تنفيذية يمكن تلخيصها بالتالي:
أولاً - تبني الدراسات والأبحاث المستقبلية في المجالات النفسية والاجتماعية المتخصصة بالأوضاع المؤثرة على الأسرة، ومنها الشذوذ الجنسي.
ثانيًا - رصد أيديولوجية الشذوذ لمعرفة تطورها ومجالات عملها، ونوعية راعيها وداعميها من مؤسسات وأفراد.
ثالثاً - تنظيم برامج الإرشاد والدعم والتوجيه والمساندة للأسر في كيفية مواجهة التحديات المستقبلية للشذوذ.
رابعاً - تنظيم برامج التواصل الاجتماعي والإعلامي المساندة للأسرة وللاستقرار والسلم الاجتماعي.
خامسًا - تنظيم فرق العمل المتخصصة التي تتولى حضور المؤتمرات واللقاءات الدولية، لتقديم التصور والموقف الإسلامي.
طبعا، هناك برامج أخرى تربوية واجتماعية يعرفها المختصون والخبراء في هذا الموضوع.
بقي أن نقول تأملوا هذه الآية العظيمة، والتي تؤكد أن كتاب الله هو دستور البشرية الخالد، والمفسر والمنبه، والهادي إلى سواء السبيل:
{وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}. هكذا أراد الشيطان}.