بعد أن أصبح نظام برايل هو الأداة الرئيسة لتعليم المكفوفين القراءة والكتابة، كان لا بد من إنشاء مطابع متخصصة في مجال طباعة برايل تقوم على أجهزة متخصصة، ويعمل بها فنيون متخصصون في هذا المجال.
ونتيجة لهذا التطور في مجال تعليم المكفوفين، فقد عملت دول العالم على دعم المؤسسات المعنية بطباعة الكتب للمكفوفين، والتي أخذت تتنافس في إنتاج المطبوعات البارزة، ومن أشهر دور طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل في العالم، على سبيل المثال لا الحصر:
- دار الطباعة الأمريكية للمكفوفين (American Printing House for the Blind)، وهي منظمة غير ربحية تقوم على دعم الحكومة الفدرالية، وقد تم اعتمادها في عام 1931م من قبل الكونجرس الأمريكي كجهة رسمية لإنتاج وطباعة المواد التعليمية لطلاب ما قبل التعليم الجامعي.
- مطابع جمعية فلانتين هوي الفرنسية (Valentin Hauy Association)، وهي عبارة عن ثلاث دور طباعة تعنى بتقديم خدمات طباعة متنوعة بين الطباعة الورقية، والبلاستيكية، والمعدنية، وهي تقدم خدماتها للقطاع الحكومي، والقطاع الخاص، والأفراد.
- مطابع برايل الاسكتلندية (Scottish Braille Press)، وهي تقع في مدينة أديمبرا بمقاطعة اسكتلندا بالمملكة المتحدة.
- مطابع المركز النموذجي لرعاية وتوجيه المكفوفين بجمهورية مصر العربية، وكان هذا المركز يتولى طباعة جميع الكنب المدرسية بطريقة برايل للطلاب المكفوفين في مختلف أنحاء الجمهورية، وذلك حسب اتفاق بينه وبين وزارة التربية، إلا أنه -في السنوات الأخيرة- تم نقل هذه المهمة إلى بعض مطابع جمعيات المكفوفين بمصر.
- مطابع برايل في الهند، نظراً للاتساع الجغرافي لجمهورية الهند، وكثرة سكانها، واختلاف لغاتها، فقد انتشرت فيها مجموعة من المراكز المعنية بالطباعة بطريقة برايل، ما بين مطابع ملحقة بجمعيات خاصة بالمكفوفين، ومؤسسات تعليمية، وقد بلغ عدد المطابع في الهند (18) مطبعة.
وتمتد خدمات جميع دور الطباعة تلك لتشمل مواد أخرى مثل: إنتاج الخرائط البلاستيكية البارزة، ومجسم الكرة الأرضية، والكتب المكبرة لضعاف البصر، والكتب الإلكترونية، والطباعة البارزة لأطفال ما قبل المدرسة، إضافة إلى أدلة إرشادية لتعليم طريقة برايل، كما تقدم خدمات التحويل إلى طريقة برايل للكتب الثقافية والمجلات، وطباعة أوراق العمل والرسائل العلمية.
ويعمل في جميع تلك المطابع فنيون مبصرون للإدخال وإنتاج الرسومات البارزة، وعدد من المكفوفين لتولي عمليات المراجعة والتدقيق، وتبدأ عمليات التحويل إلى طريقة برايل بتهيئة النص المدخل، بما يتوافق مع نظام برايل، ثم يعرض النص على أشخاص مكفوفين لمراجعته واعتماد طباعته.
أما في المملكة العربية السعودية، فإنه في إطار العناية والاهتمام والدعم غير المحدود الذي يحظى به الأشخاص ذوو الإعاقة في المملكة بشكل عام، وفئة الإعاقة البصرية على وجه الخصوص، فقد تم إنشاء أول معهد نور للمكفوفين عام 1380هـ، وقد اقتضى ذلك استحداث مطابع متخصصة لطباعة الكتب المدرسية بطريقة برايل عام 1382هـ، وقد سميت في البداية مطابع التعليم الخاص، ثم أصبح اسمها مطابع التربية الخاصة.
وقد حرصت وزارة التعليم -باختلاف مسمياتها- على دعم هذه المطابع بما يلي:
1. المكان المناسب لتنفيذ عمليات طباعة برايل.
2. التجهيزات اللازمة، وفي مقدمتها طابعات زنك يدوية وآلة رسم بارز، ومكابس كهربائية، ثم استعاضت عنها فيما بعد بطابعات ومعدات إلكترونية.
3. الكوادر الفنية المتخصصة في طباعة برايل من داخل المملكة وخارجها، سواء من المبصرين أو المكفوفين.
4. ميزانية سنوية لتأمين الورق المخصص للطباعة، وتوفير قطع الغيار اللازمة، وتلبية الاحتياجات الأساسية كافة للمطابع.
وقد كان نتاج ذلك الدعم، توفير كتب عالية المستوى في الإخراج والطباعة، ولجودة الكتب المدرسية المطبوعة بنظام برايل في المملكة العربية السعودية، فقد استعارت بعض الدول الشقيقة تلك الكتب لتدريسها في معاهد المكفوفين لديها حتى عهد قريب.
وقد استمرت مطابع التربية الخاصة لطباعة الكتب المدرسية للطلاب المكفوفين، التابعة لوزارة التعليم في توفير جميع المقررات الدراسية والكتب الإثرائية الثقافية أكثر من خمسة عقود، إلا أن هذا الدعم تغير مع مطلع العقد الماضي، حيث واجهت هذه المطابع تحديات كبرى، أصبح من الصعب التغلب عليها، وقد تمثلت في:
- عدم وجود مخصص مالي لمتابعة صيانة واحتياجات الطابعات.
- تقادم الطابعات والمعدات وصعوبة توفير قطع الغيار.
- تناقص عدد خبراء الطباعة من المبصرين المعنيين بإدخال النصوص، ومعالجة الرسومات والجداول البارزة، وكذا تناقص أعداد المدققين من المكفوفين.
- عدم وجود برنامج إلكتروني لطباعة رموز العلوم والرياضيات.
- عدم وجود طابعات أو برامج للرسم البارز.
وقد نجم عن تلك التحديات:
- ضعف المستوى الفني في إخراج الكتب.
- بطء الطباعة، وبالتالي تأخر إرسال الكتب المدرسية إلى المدارس في الوقت المناسب.
وللتغلب على تلك المشكلة، فقد أسندت وزارة التعليم مهمة طباعة الكتب المدرسية بطريقة برايل إلى مطابع أهلية في القطاع الخاص، وذلك على أمل أن تخرج بمنتج يراعي احتياجات الطلاب والطالبات، لكن واقع طباعة الكتب المدرسية بطريقة برايل في الوقت الحاضر لا يسر النفس، ولا يثلج الصدر، ولا يبهج الخاطر، إذ يبدو أن تجربة الوزارة مع القطاع الخاص في مجال طباعة برايل لم تحقق الأهداف المرجوة منها كما ينبغي، فقد لوحظ ما يلي:
- ارتفاع التكلفة الباهظة لعقود الطباعة عن طريق المطابع الأهلية في القطاع الخاص.
- نظراً لارتباط عقود الطباعة بمدة زمنية قصيرة، ولارتفاع أسعار طابعات برايل، تلجأ المطابع الأهلية إلى الاستعانة ببعض الأشخاص الذين يمتلكون طابعات برايل من داخل المملكة وخارجها، ولضعف إمكانات هذه الطابعات الشخصية، ولعدم الاعتماد على آلية موحدة للإخراج، فإن المنتج يكون متواضعاً.
- خلو المطبوعات من الرسومات التوضيحية، وبالتالي عدم تحقيق المطلوب.
- وفوق ذلك كله، تتكفل وزارة التعليم بتكليف لجان من المعلمين لمراجعة وتدقيق الكتب قبل اعتماد طباعتها في المطابع الأهلية بالقطاع الخاص، وهذه تكلفة إضافية على الوزارة.
وفي ضوء ما سبق، يتضح أن الوزارة قد خاضت تجربتين في مجال طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل؛ إحداهما طباعة هذه الكتب عن طريق مطابع التربية الخاصة في وزارة التعليم بالقطاع الحكومي، والأخرى هي إسناد هذه المهمة إلى مطابع أهلية بالقطاع الخاص، وعليه فإنه يتعين على الوزارة -من وجهة نظرنا- أن تقوم بتقييم هاتين التجربتين تقييماً شاملاً للوقوف على الإيجابيات والسلبيات في كل منهما، والخروج بتوصيات تدعم أحد المقترحات الثلاثة التالية:
المقترح الأول: أن تعيد الوزارة مهمة طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل إلى مطابع التربية الخاصة بالوزارة، شريطة أن تعيد إليها الدعم المادي والمعنوي الذي كانت تحظى به في الماضي، والذي كان -بعد الله سبحانه وتعالى- سبباً في نجاحها، وتمكينها من القيام بمهامها على الوجه المطلوب.
وفي هذا المقترح حفاظ على مكتسب وطني مهم لمعاهد النور وبرامج دمج المكفوفين في مدارس التعليم العام، والاستفادة من الرصيد التراكمي من الخبرات المهمة في مجال طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل.
المقترح الثاني: تمكين جمعيات المكفوفين الأهلية في المملكة من القيام بهذه المهمة، مع ملاحظة أن جمعية المكفوفين الأهلية بمنطقة الرياض (كفيف) قد تقدمت منذ انطلاق دورتها الثالثة عام 1438هـ بمبادرة إلى وزارة التعليم تهدف إلى تولي الجمعية طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل في مطابع الجمعية، وذلك لتوفر طابعات برايل، ووجود عدد من المختصين في فنيات الإخراج من المبصرين والمكفوفين.
وكانت الجمعية ترى أن ذلك سيسهم في خفض التكلفة على الوزارة، إلى جانب سرعة وجودة الإنتاج، غير أن تلك المبادرة لم تجد تجاوباً من الوزارة، كما أن الجمعية لم تتابع هذا الموضوع بشكل جاد، وفي هذا المقترح دعم لجمعيات المكفوفين في منظومة القطاع غير الربحي.
المقترح الثالث: أن تستمر الوزارة بإسناد هذه المهمة إلى المطابع الأهلية بالقطاع الخاص، مع ضرورة تلافي السلبيات الجوهرية الكثيرة التي تمت الإشارة إليها.
وصحيح أن هذا المقترح ينسجم مع مستهدفات رؤية السعودية (2030) في مجال الخصخصة، مع التأكيد على أمر مهم مؤداه أن هذه الرؤية الطموحة تراعي جوانب التخصص والخصوصية التي تتفرد بها بعض المشروعات.
ولا شك أن كل واحد من هذه المقترحات يتميز ببعض المزايا والإيجابيات، ويعاني من بعض القصور والسلبيات، وعلى الوزارة أن توازن بينها جميعاً كي يتسنى لها اختيار الأنسب منها، بل إنه بمقدورها أن تتبنى مقترحاً رابعاً يجمع أهم مميزات وإيجابيات هذه المقترحات، ويتلافى جميع سلبياتها.
وفي جميع الأحوال، وبالإضافة إلى كل ما سبق، وبغض النظر عن المقترح الذي تعتمده الوزارة، فإنه يتعين عليها العمل على تفعيل التقنية الحديثة في مجال الإعاقة البصرية، وذلك من خلال تزويد طلاب وطالبات الصفوف العليا من المرحلة الابتدائية، وطلاب وطالبات المرحلتين المتوسطة والثانوية بأجهزة برايلية إلكترونية يمكن استخدامها كأجهزة مستقلة، بالإضافة إلى أنه يمكن توصيلها بالحاسب الآلي كوحدات طرفية، أو تزويدهم بحاسبات آلية مرتبطة بوحدات طرفية برايلية، ومغذاة ببرامج تعمل على ترجمة النصوص من الخط العادي إلى نظام برايل والعكس، وكذلك برامج قارئات الشاشة.
وهذا يعني أن الطلاب والطالبات المكفوفين سيستفيدون من النصوص المكتوبة بطريقة برايل، وكذلك النصوص المنطوقة، مع التأكيد على أن يظل نظام برايل هو الأداة الرئيسة في مجال تعليم المكفوفين القراءة والكتابة.
أما بالنسبة للأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة والصفوف الأولى من المرحلة الابتدائية، فإنهم يحتاجون بالضرورة إلى تعلم القراءة والكتابة من خلال نظام برايل الورقي، وهذا يعني أن تنشأ في كل معهد نور، أو برنامج واحد، أو عدد من برامج دمج المكفوفين في مدارس التعليم العام وحدة حاسوبية تتكون من حاسب آلي، وطابعة برايل ورقية، وبرنامج ترجمة.
ويلاحظ أن هذا الطرح يستلزم أن تقوم وزارة التعليم بتوفير الكتب المدرسية -من خلال منصاتها الإلكترونية- في صيغ يمكن قراءتها والتعامل معها وفقاً لما نصت عليه اتفاقية مراكش لتيسير النفاذ إلى المصنفات المنشورة لفائدة الأشخاص المكفوفين أو معاقي البصر أو ذوي إعاقات أخرى في قراءة المطبوعات، والتي صادقت عليها المملكة بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم (م/109) وتاريخ 5/ 11/ 1439هـ.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد سبق لنا أن تقدمنا إلى وزارة التعليم بتصور يتضمن أهمية توظيف التقنية الحديثة لصالح الطلاب والطالبات ذوي الإعاقة البصرية، ونبهنا -في وقتها- إلى أن عدم الاستفادة من هذه التقنية سيؤدي حتماً إلى تخلف هذه الفئة من الطلاب عن ركب التعليم في ظل التحول السريع من البيئات الورقية إلى البيئات الرقمية في مدارسنا، إلا أن الجهود في هذا السبيل ما زالت محدودة جداً.
والمهم في ذلك كله أن تراعي الوزارة ما يلي:
1. أن تتولى الجهة المختصة بالوزارة وضع الضوابط والمعايير والشروط التي تحكم طباعة الكتب المدرسية بطريقة برايل، واختيار الأجهزة والبرامج الإلكترونية.
2. أن تتحقق الجودة والاستقرار والاستدامة في طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل.
3. إنه لا صوت يعلو على صوت الفئة المستهدفة، وهم الطلاب المكفوفون والطالبات المكفوفات، وحاجتهم إلى الكتب المدرسية التي تتسم بالجودة العالية في شكلها ومضمونها، بالإضافة إلى وصولها إليهم في الوقت المناسب.
4. أهمية الاستفادة من التجارب والخبرات العالمية، وأحدث الممارسات في مجال طباعة الكتب المدرسية بنظام برايل.
5. مراعاة التكلفة والفاعلية والترشيد في الإنفاق.
وفي الختام، ندعو الله -سبحانه وتعالى- أن يحفظ بلادنا الحبيبة، وأن يحفظ عليها أمنها واستقرارها، وأن يحفظ لها قيادتها الحكيمة الواعية الرشيدة كي تواصل مسيرة الخير والعطاء والنماء.