د. فهد بن أحمد النغيمش
رغم تسابق العَبَرات في منحدر الغياب الكبير.. ورغم تدافع الدموع في ضباب الكلمات الهائمة أسىً ولوعة.. نقول: الحمد لله على كل حال.
كثير هم أولئك الذين نقابلهم في هذه الحياة، البعض منهم يمر مرور الكرام، والبعض الآخر تبقى علاقتك به بمثابة نقش على الحجر لا يزول ولا يحول، والبعض الآخر قترة زمنية قصيرة تنتهي بانتهاء صلاحية الألبان في المحلات! هذه سنة الله في خليقته جرت بها الحكمة الإلهية {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
كان الظن أن الرجال أصحاب الأيادي البيضاء والخصال الحميدة الذي لهم في كل ميدان من ميادين الخير بحار من البذل والسخاء العطاء، كنا نظن أنهم لا يرحلون هكذا بسهولة، حتى فجعنا بخبر وفاة الرجل الباذل المنفق الشيخ الوجيه الكريم: عبدالله بن عبدالرحمن العقيل، بغياب الرجل الذي نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً، أنه من أهل الخير، فلم يعرف عنه أنه رد سائلاً، أو أعرض عن تقديم يد العون لكل محتاج، أو مسكين، أو توانى عن دروب الخير يوماً من الأيام، ذلك كله زادنا إيماناً ويقيناً أن الموت نهاية كل حي، وتذكرنا قوله سبحانه: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
لعَمْرُكَ ما الرّزِيَّة فَقْدَ مالٍ ولا شاةٌ تَمُوتُ ولا بَعِيرُ
ولكنّ الرَّزِيَّة فَقْدُ شهم يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ
رحل الشيخ عبدالله، فكان رحيله درساً لكل من أراد أن يكون له سيرة عطرة يتناقلها الناس بعد وفاته، وقد جاء في الحديث الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: «مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: وجبت. فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»، صدق الله العظيم.
ومن أجمعت الألسن على ذكر محاسنه وحبه، لاشك أنه قد وُضع له القبول في الأرض، فما أحبه أهل الأرض حتى أحبه أهل السماء، ووجبت له محبة الله تعالى، وما كان لينال ذلك إلا لما يفعله من الخير لعباد الله.
الشيخ عبدالله من القلائل الذين توافرت فيهم صفات الغنى والتواضع والأخلاق السامية، والبسمة المشرقة، فتراه دائماً مبتسماً متواضعاً باذلاً للخير، يبحث عنه بكل ما أوتي من قوة، بل قال مقولته الشهيرة يوماً إنه لم يدخل في مشروع إلا ومعه شريك يقاسمه الأرباح، يعني بذلك أن أي ربح يحصل عليه يجعل منه جزءًا لوجه الله تجارةً وربحاً!
نعم رحل صابراً محتسباً، وقد أتعبه المرض، ونحسب أن ذلكم المرض قد نقاه من ذنوبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
رحل -رحمه الله-، ونحسبه أنه من أهل الجنة برحمة ربنا سبحانه، فقد قدم وبذل وأنفق، ولعل ما عند ربه خير وأبقى، لكن وفاته -رحمه الله- أبكت عيوناً، ولمثله فلتبك المدامع.. سيبكيه الأرامل، والمحتاجون، والعوزة، والضعفاء، والمساكين الذين كان لهم سنداً وعوناً في تفريج كربهم وقضاء حوائجهم.. ستبكي الجمعيات الخيرية التي أغدقت عليها العطاء، وأنفقت لها من من مالك الكثير والكثير، فأسست وتبرعت وشاركت وأوقفت، وها هي شامخة بطودها وبنائها، شاهدة لك بأن هنا كان اسمه في منظومة الخير والبذل والعطاء أساساً وسنداً وظهيراً، ورحم الله أحمد شوقي حين قال:
عشْ غيرَ عَبْدٍ، ولا مُحتَقَر
وكن رجلًا إن أتوا بعده
يقولون: مرَّ وهذا الأثرْ
اسألوا الجمعيات الخيرية في المملكة العربية السعودية، سواء في نجدها أو شمالها أو غربها أو شرقها.. اسألوا مدينة المجمعة، ومسقط رأسه مدينة حرمة.. اسألوا مدن ومراكز سدير، بل اسألوا الساحل الغربي وجمعياته: هل مرّ بكم عبدالله العقيل؟.. نعم له أيادٍ بيضاء ممتدة في كل مجال ولكل شرائح المجتمع، رجل عصامي، شقّ طريق النجاح بعزمه وحنكته وذكائه ونيته الطيبة، وسيرته في ذلك تدرس بين الأنام، وتؤخذ بالحكمة والتدريب بين الشباب.
نعم رحل بجسده ولكن لم يرحل بروحه ولا بذكره ولا بمناقبه.