د. أحمد العمري
إن الجانب الفكري أو الذهني الذي يتحقق بوجود إنسان مؤهل للمهنة وعلى مستوى رفيع من الكفاءة والخبرة العلمية والعملية هو المطلوب فعلاً في المحامي المثالي مع الإقرار بأن المحاماة كغيرها من المهن لا تخلو من الجيد الكفء والمتوسط أو حتى الرديء. هنا نجد جزءا من الإجابة فقط ولذا فإنه لا أحد يقول: إن الذكاء الاصطناعي له خصائص بشرية مثل التفكير المتوازن أو الرؤية الإنسانية أوالتفاعل العاطفي أو تقدير الأحوال بحسب الزمان والمكان والشخص.
ولذا فإن الكمبيوتر ومن ورائه شبكات الإنترنت والمواقع والتطبيقات الذكية هي في الواقع عنصر آلي إليكتروني يتجاوز العمل الميكانيكي ولا يصل إلى مستوى العمل الذهني البشري.
من هنا يمكن أن نبدأ بالقول على سبيل الجزم واليقين إن المحكمة الأمريكية حينما أحالت المحامي للتحقيق كان قرارا صائباً ويعتبر مبدأ سليماً، فلا يجوز للمحامين الكذب في الاستشهاد بالقانون أوالسوابق القضائية التي تعتبر قانونا في الدول ذات النظام الانجلو-أمريكي أوحتى في الدول التي لا تعتبر السوابق قانوناً، فلا يجوز للمحامين تقديم قانون غير حقيقي للمحكمة.
ولو تصورنا محامياً يسرد نصوصا قانونية لا حقيقة لها أو سوابق لا وجود لها فإن إحالته للتحقيق قرار صائب، وقد يتهم بالكذب على المحاكم أو ربما التحايل عليها. ولذا فإن استخدام الذكاء الاصطناعي هو مجال مفتوح للاصطناع أو اختلاق ما لا أساس له، فالمحامي الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي هو في الحقيقة يسبح في عالم الافتراض لأنه تعامل مع واقع افتراضي غير حقيقي، ثم جعل هذا الواقع الافتراضي جزءا من عملية محاكمة يترتب عليها مصير العدالة فيما استخدم فيه ذلك الافتراض الذي إن صح في مجال الخيال العلمي أوالصناعة السينمائية فإنه في غاية الخطورة في ميدان القضاء.
الأمر الآخر الذي يضاف إلى الكذب في القانون هو الكذب في الوقائع المادية التي تشكل الجزء المادي الملموس في القانون الجنائي أو العقود أو الأفعال التقصيرية التي يترتب عليها الجزاء الجنائي أوالمدني وهي ليست جديدة، فإن المحامي يسعى لخدمة موكله والدفاع عن موقف تبناه سلفًا ولذا فإن ادعاء ما لم يحصل من الوقائع مرتبط بالإثبات وهو محل أخذ ورد بين المحامين، وتخضع للإثبات الذي يقع على عاتق من يدعيه، ولكن الخطورة هنا هي في الافتراضات المفتوحة التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي لإحداث اللبس لدى المحكمة، وحينما تكون واضحة في الكذب فإنها قد تصل درجة الافتراءات التي يحاسب عليها المحامي وهي درجات متفاوتة في الاختلاق، ولكن الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى أذكى مما وصل اليه أذكى المحامين في ادعاء ما لا أساس له من الوقائع.
وأخيرًا فإن الكذب في الأدلة أو المستندات أو بمعنى آخر اصطناعها قد يعرض المحامي للتحقيق فإن الأدلة هي العنصر الجوهري والأساسي في الحكم القضائي فلا حكم بدون أدلة وإثباتات يستند إليها المحامي وتقتنع بها المحكمة وهي في غاية الخطورة أيضاً، ولكن هناك أيضا مجال للأخذ والرد والنقاش والإنكار، ولكن لو تصورنا حجم الجهد الذي يبذله المحامي الخصم ومعه المحكمة في النفي لوجدنا أن إضاعة وقت المحكمة فيما لا طائل من ورائه قد يعرض المحامي أيضاً للمساءلة القانونية.
ومن هنا فإن ما يمكن أن يقال موقتًا في مسألة متطورة وقد تأخذ أبعادًا جديدة وربما غير متوقعة هو إعطاء الرأي فقط للمحامين بأن الكمبيوترلم يعد مجرد وسيلة للطباعة أو لتخزين المعلومات بل تجاوز ذلك بكثير، فهو أرشيف لتخزين المعلومات والملفات والاتصالات ونحوها، والخطورة هي في تسرب هذه المحتويات أو اختراق الكمبيوتر والحصول عليها. كما أن تحليل المعلومات والاستعانة بقواعد المعلومات لا يعني أن تكون علاقة المحامي مع الكمبيوتر مجرد قص ولصق وتحويل عملية الترافع الكتابي إلى عملية آلية لإكمال الإجراءات المطلوبة، فهناك محامون -بالفعل- تكتب لهم المرافعات من بعد «اونلاين» أو من خلال مستشارين لا يحضرون الجلسات، وهذا أهون من الاستعانة بالذكاء الاصطناعي.
أما عن كيفية وضع حد لمخاطر الاستعانة بالذكاء الاصطناعي فإن مجرد توقيع المحامي على تعهد بعدم استخدام مواقع الذكاء الاصطناعي في مذكراته كفيل بوضع حد للمخاوف من هذا الانفلات المهني للمحاماة، وهو أمر وارد لو أخذت المحاكم موقفا من مواقع الذكاء الاصطناعي واعتبارها ضارة بمصداقية الترافع أمام المحاكم، ولن يطول الأمر حتى تتضح الصورة أكثر أمام جميع الأطراف المعنية بذلك من قضاة ومحامين ومستشارين، وقد يكون الوعي بخطورة ذلك يبدأ الاستشعار به من العملاء حيث من الممكن أن يطلبوا من محاميهم عدم استخدام الذكاء الاصطناعي في الترافع في قضاياهم.