عيد الوهبي
تشهد المنطقة تغيرات حادة، فما إنْ تهدأ جبهة من الجبهات حتى تنطلق شرارة أخرى، فمنذ الغزوين الأميركيين لأفغانستان عام 2001 والعراق في عام 2003، واللذين دشنهما الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش تحت مسمى «الحرب على الأرهاب»، في أعقاب هجمات سبتمبر 2001م، والمنطقة على صفيح ساخن تنتقل من صراع إلى آخر، ثم تبع هذين الغزوين حراكاً عربياً أدى إلى سقوط رؤساء وزعماء، وخلّف فوضى وتغيرات كبيرة في الأنظمة التي عاشت برهةً من الدهر بسلام. ساهمت هذه التغيرات الكبيرة ببروز الجيوش غير النظامية، ليكون ازدهارها على حساب الجيوش النظامية التقليدية، بسبب اتجاه الحكومات الضعيفة البائسة إلى الميليشيات باعتبارها طوق النجاة الأخير وباعتبارها أيضاً قوى غير رسمية تمكنها من ترسيخ السلطة، إضافة إلى أن هذه الميليشيات تعتبر ذراعاً خفية تمكن الدولة الضعيفة من تحقيق أهدافها في سحق خصومها وقمعهم من غير أثر واضح في مسرح الجريمة، وكذلك اعتقاد هذه الدول أن لجوءها إلى الميليشيات يمكنها من سد فراغ القوة الموجود فيها أثناء مجابهة الظروف والمتغيرات؛ خاصة إذا ما علمنا أن هذه الميليشيات هي أقرب للنظام الحكومي وتتحرك وفق إرادة الدولة وحسب رغبتها. إذن قد يكون من أسباب ظهور وصعود الميليشيات هو ضعف الدولة، والتهميش والاستبعاد لمكون من مكونات المجتمع وتكوّن شعور الدونية لدى هذه الجماعات المشكلة لعصب الميليشيات وهو ما يؤدي إلى شعور البغض والكراهية للدولة، وثالثاً: أن استخدام العنف المنظم بشكل غير رسمي قد يُجنّب الحكومات المساءلة عن العنف والقمع، لأن في أي انتهاك لقوانين الحرب في النزاعات المسلحة يعرض مرتكبيها للمحاكمة الدولية، فهذا اللجوء إلى استخدام عناصر وأدوات من خارج المنظومة العسكرية الرسمية يساعدها بالقيام بمهام خارج الأطر التقليدية للقوات المسلحة النظامية، ومع النجاح النسبي لهذه العناصر أغرى بقية البؤساء من الزعماء التوسع في الاستفادة من هذه الأيادي القذرة لتنتشر بعدها الفوضى والنزاعات وحالات التمرد المسلح والحروب الأهلية في المنطقة لتكون شماعة للتدخلات الخارجية مع شلل للأنظمة السياسية التي فقدت معها الدولة المركزية أهميتها وقدرتها على التحكم. أدى هذا الشلل السياسي إلى تنامي عجز الدولة في قطاعات الدفاع والأمن، ولم تعد الجيوش الوطنية القوة الشرعية الوحيدة فيها؛ نظراً لتعاظم قوة وتأثير العناصر المسلحة غير النامية، لدرجة أنه أصبح يطلق عليها «الجيوش الموازية» فأصبحت تتسلح بأسلحة خفيفة وثقيلة ولها قواعد للتدريب، وتعمل على المزج بين الوسائل التقليدية وبين الوسائل الحديثة التي مكنتها في نهاية المطاف من السيطرة على مساحات جغرافية شاسعة ذات أعداد سكانية مرتفعة، ساعدها على هذا التمدد ما تمتلكه من موارد اقتصادية كبيرة، وعلاقات مع دول وفاعلين خارج الدولة. ولا أوضح من ذلك من وجود دول مؤثرة في السياسة الدولية تتعامل مع هذه النظم الميليشاوية على أنها هي الدولة.
ولعل الأسباب التي أدت إلى تعاون الدول للعمل مع هذه الميليشيات هو استمرار دوامة العنف والفوضى، وكمثال «جيش حفتر» و«قوات السراج» في ليبيا، وميليشيات الحوثيين في اليمن، و«الجيش الحر» في سوريا، و«حزب الله» في لبنان، و«الحشد الشعبي» في العراق، و«الحرس الثوري» في إيران، وقوات «الدعم السريع» في السودان، والميليشيات التابعة لرياك مشار في مواجهة قوات سلفا كير ميارديت في جنوب السودان، وجماعة «بوكو حرام» في نيجيريا، وحركة «الشباب المجاهدين» في الصومال.
وأخيراً، لا ينكر أحد أن هذه الميليشيات غالباً ما تكون ذراعاً مفيداً للدولة تبطش بها ضد أعدائها خاصة في بعض الملفات الأمنية، وهي أقل تكلفة وأكثر فاعلية بصورة أكبر من القوات النظامية خاصة في النزاعات والحروب، إلا أن إثمها أكبر من نفعها ومخاطرها الكامنة أكبر بكثير من هذه الفوائد المرحلية، حيث إن أهم خطر في هذه الميليشيات هو العمل المستمر على عدم تقوية وبقاء الدولة، لأن تقوية الدولة يعتبر تهديدًا لبقاء الميليشيات واستمرارها، بل في أحيان كثيرة تعمل على إعلان التمرد أو محاولة الانقلاب كما هو الحال في السودان، والذي يعطي صورة واضحة عن تبعات استعانة الدول بميليشيات قبلية أو طائفية أو مناطقية لأنها في نهاية المشوار سيكون طموحها هو اعتلاء السلطة.