هل الزمن كما يحدثنا اللغويون ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تنتظم فيه كل أفعالنا؟ أم أن الزمن ليس إلا مجرد تصور ذهني كما يرى المثاليون من الفلاسفة؟ أو له وجود حقيقي بعيداً عن فعل الذهن كما في الرؤية الموضوعية للزمن؟ هل قسمة الزمن عند المفكرين والدهماء عادلة في عطائها لهم؟ وإذا سلمنا بنظرية عدل الزمان, فهل إدراك عقولنا للزمن إدراكاً متشابهاً في محسوسنا ومعقولنا؟ ويا ترى هل الحدث هو الذي يصنع الزمان؟ أم الزمان هو الصانع للحدث؟ ولماذا يتفاوت الزمن عند الحدث نفسه؟ وهل الإنسيابية صفة ملازمة للزمن؟ وهل الأماكن تحفظ الوقت أو تسرقه؟ وهل قوة الشعور تسلب منا الزمان؟ أو تسلب الزمان نفسه؟ وهل منطق الأشياء يتوافق مع الزمان؟
يسعى هذا المقال إلى فتح أكبر قدر من الأسئلة نحو الزمن، كما يسعى إلى إبراز مقاربة إدراكية مع الزمن؛ تعقد تصالحاً بين الزمن والزمن نفسه نستطيع من خلالها رسم رؤية تلامس تشكلات الزمن وتعاوره في مواقفنا وتصوراتنا.
لا أعتقد أن هناك تعريفاً بيّناً نتمكن من خلاله الإمساك النظري بماهية الزمن؛ لوجود إشكالية سيكولوجية تتمثل في تشظي التصور الذهني للزمن فيما يخص الشعور به من معايشة الحياة بمختلف تحولاتها التي يمر بها الفرد، فالزمن وفق هذه الإشكالية أشبه ما يكون بسائل يأخذ شكل المكان الكوني وما بعد الكوني (المتخيل) ثم ما يلبث أن يثور عليهما، وهذا ما يجعل إدراكنا وخيالنا وتصورنا الذهني متفاوت الكم والكيف للزمن.
وإذا كانت منبت المشكل من الشعور الداخلي فلندخل على الشعر؛ لعلنا نظفر بمعنى للزمان من خلال الشعر. يقول امرؤ القيس:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
إن الزمن عند الشاعر هنا متعالق في لحظة من لحظات عمره، وهو ما نسميه الذكريات، وصورة هذا التعالق في مخيلة الشاعر يتناسب مع ذكره لليل الذي لا يسير فيه البصر مع المرئيات، بل يبقى البصر في رؤية متكررة للأشياء بسبب الظلام أو لا يرى شيئاً، ولذلك يعاتب الشاعر الليل منادياً له (ألا أيها الليل) إن الزمن هنا في تصور الشاعر تصور دامس لا يرجع أحداثاً ولا يمضي قدماً، أي لم يصبح ماضياً ذاهباً ولا حاضراً بأمل، بل تعلق في ظلام الليل، وإن استنجد الشاعر بالمستقبل كما قي قوله: (ألا انجلي بصبح) لكن هيهات أن يسير, وقد وعى امرؤ القيس ذلك الثبات بقوله: (وما الإصباح منك بأمثلِ) ولا أظن إلا أن زادنا الشعور في هذا المقام صلابة الزمن، زمناً صلباً واقفاً لا يلين ولا يتحرك، يقول امرؤ القيس: (فقلت له تمطى بصلبه) إنها صلابة الشعور بالزمن.
وهذا الزمن الصلب يقابله الزمن الليّن، وهو الذي أشار له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل» والحديث في الحث على السفر وقت الليل، والدلجة قيل: إنها أول الليل، أو أوسطه، أو آخره، الشاهد هنا أن الزمن للمسافر في هذا الوقت مُطاع له بالمضي والانطواء، أي أن الوقت ينضم بعضه إلى بعض فلا يمتد، وهذه البغية التي ينشدها حال المسافر. ولك أن تتأمل المقابلة بين الصورتين: (تمطى بصلبه) و (الأرض تطوى بالليل).
ومقابل هذه الثنائية المتمثلة في الصورة الجزئية أو اللحظية الآنية للزمن، تكاشفنا الصورة المقابلة للزمن، وهي الصورة الكلية التي يتداخل فيها الزمن ويتشارب من بعضه فماضٍ يزاحم مستقبلاً، ومستقبل يتشابك مع ماضٍ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الزمن المركب الذي يتآزر مع بعضه دون أن يتدافع، فيكون للكينونة ارتباطاً وجودياً، ووعياً صارخاً باللحظة الآنية المركبة من الماضي والمستقبل معاً، ومن الأمثلة المعينة على توضيح هذه الفكرة المتمثلة في الزمن المركب الاستعارةُ القرآنية الواردة في قوله تعالى: ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) الحج: 55، والشاهد الاستعارة في قوله تعالى: (يوم عقيم) فالتعبير عن اليوم بالعقم عدول عن التعبير الحقيقي (يوم كبير) أي لا ينتج خيراً، وذكر المفسرون بأن المعنى أنه يوم لا ليل بعده ولا يؤخروا فيه إلى المساء، وعلى ذلك يمكن القول بأن المعنى المذكور المعنى الأولي للاستعارة الذي يكمن في الإخبار وهو ما يعرف بدلالة العبارة، إلا أن المعنى الثاني (الزماني) يكمن في الدلالة الإشارية، التي تبدأ من المتلقي المُخبَر إلى المتلقي المعتبِر، فالمتلقي المخبَر انحصر في دلالة الإخبار، لكن المتلقي المعتبِر هو الذي استحكم من الزمان وتجاوز به من الزمن الحقيقي المتمثل في الإخبار إلى زمن العبرة الممتد، فأضحى سلوكه الممارس محاطاً بالوجل اكتنزت فيه العبر ورؤية المصير، بين ماضٍ اتصل بالحس، وإيمان بالغيب يواصل فيه الرجاء بالقبول، فتشارب الزمان بين شعور الاعتبار وصدق الإيمان فتجسد الزمان فضيلة وأخلاقاً.
و بالأضداد تتبيّن الأشياء أكثر، فهذه اللحظة الآنية المركبة في التصور الإيماني تفارق اللحظة الآنية الموهومة - هكذا أسميها - المكثفة بالتفكير الحداثي والتصور الفرداني؛ ذلك أن اللحظة الآنية الموهومة عند مستهلكها تتخلى عن أي انتماءات سابقة سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو دينية، ليس لها هدف إلا تحقيق اللذة، لذة الوهم التي يرفضها الزمان بأن تلبث فيه فلا يستطيع المستلذ بأن يمسك هذا الزمان، ولذلك فإن اللحظة الآنية عبارة عن ركض وراء أزمنة من اللذات لا تنتهي، تنشأ من الغرائز والأهواء. حقاً إنها أزمنة الوهم.
وإذا كان الزمن المركب يُحدث وعياً صارخاً باللحظة فإن من الأزمنة ما لا يكون زمناً؛ يبرأ فيه الشعور من كينونته وارتباطه الوجودي بذلك الزمن، أي أن الزمن يصير حالة مفارقة لصاحب الحدث، إن هذا التقاطع بين الحدث وصاحبه يخلق صراعاً داخلياً من الانفعالات والعواطف بين زمنين متتاليين في الحدث الخارجي والحدث الداخلي، ومما يمكن أن يوضح لنا هذه الفكرة ما جاء في قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكلمهم أحد، والقصة معروفة، والشاهد حين جاء كعب بن مالك رضي الله عنه معتذراً عن تخلفه عن الغزوة – وهذا الحدث - فقال: «والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت». ومنذ هذا الاعتذار التي بدأت معه المقاطعة إلى ما يقارب من خمسين ليلة حتى جاءت ساعة الفرج، حين سمع كعب صوتاً صارخاً: يا كعب بن مالك أبشر. أقول: ما بين ساعة الاعتذار وساعة الفرج حدث انفصال في الزمن بفعل شعور الندم، وكأن الندم الصادق يطهر الزمن من أحداثه، فأصبح الحدث معلقاً عن الزمن، إنه الحدث الذي خرج عن الزمانية حين قبل الله توبة كعب ومن معه، يقول تعالى: ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) التوبة: 118، فبحدوث التوبة أصبح الحدث مفارقاً للزمن حيث فرغت التوبة الحدث من الزمان.
هذا إذا كان الزمن مفارقاً للحدث، أما الزمن المفارق لصاحب الحدث، فإن ذلك يكمن لمن فارقت أجسادهم الحياة، ورحلوا إلى الحياة الآخرة، إن الزمن هنا بوصفه مرتحلاً عنهم من شأنه أن يسبغ على أفكارهم وإنتاجهم معانيَ جديدة وتأويلات عميقة، إن الزمن هنا يعد زمناً متحولاً في نفسه؛ كون الفكرة التي عاشت مع صاحب الحدث، أضحت فكرة أخرى بعد تخلي الزمان عنه، وهنا يفتح الزمن مصراعيه لنافذة التأويل، فإذا كان النص يخرج من سلطة صاحبه لحظة خروجه منه وينتقل بعده إلى سلطة المتلقي أو الناقد، فإنه بعد زمانه يصبح النص نفسه سلطة يستوي فيه منشئه والمتلقي، وما هذا إلا بفعل الزمان .
وإذا كان الزمن مرتحلاً عن صاحبه فإن في سياق آخر يكون شبه مرتحلٍ، أي يسير خاطفاً للأفكار والعطاءات والإنجازات، وهذا ما نلمسه في المدن الصاخبة السالبة لفضيلة الزمن من ساكنيها؛ يعطيهم أوهام التقدم والحضارة في مشاهد لا تتجاوز روعة إعجابهم واستهلاك حواسهم، بدلاً أن تكون حافزاً لهم على التفكر والعطاء، وهذا بخلاف الزمن الذي يسكن الريف، فإنه يهدي الزمن نفسه التأمل والتفكر والسكينة والملل.
أيها القارئ لمقالتي، كم ستمكث فيك هذه الأفكار من الزمن؟
** **
د. محسن بن علي الشهري - دكتوراه في البلاغة والنقد