عبد الله النجدي
حجر السعادة رواية للكاتب العراقي أزهر جرجيس، دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام2023، رواية رائعة، ولا غرابة في ذلك، فهي كتبت في أرض ابتكار الكتابة. رواية ذات لغة ساحرة ساخرة، لغة أدبية، فلا تكاد تخلو صفحة من تشبيه أخَّاذ يخدم المعنى بكل أناقة.
الراوية في الرواية كانت بضمير المتكلم، وهو البطل كمال، وهذا شائع في الروايات، ومن مزايا الراوي بضمير المتكلم أن القارئ يعيش مع الشخصية لحظة الحدث، فيكون تفاعله معها أكبر.
حبكة الرواية سلسة وقوية، ومع أن القصة قصة عادية، تحدث مثيلاتها كثيراً، لكن تناول الكاتب لها كان مختلفاً ورائقاً ومشوقاً، سانده في ذلك لغته الساحرة ومجازاته وتشبيهاته الأخاذة.
ترتيب الزمن كان تصاعديا، والحوارات كانت كاشفة للشخصيات وما يدور في أذهانها ووجدانها، وفيها عفوية وحميمية وكأنك تشاهد المتحاورين.
بناء الأحداث متناسق، ورسم الشخصيات جميل، فحتى شخصية جانيت وهي لم تأخذ إلَّا حيزاً صغيراً على سطور الرواية، كانت شخصية مرسومة بحيث تعلق في ذهن القارئ ولا ينساها أبداً، شخصية كمال منذ طفولته وحتى كهولته، شخصية ريمون الصغير وأسنانه التي كأسنان الأرنب، ورسمه بهذا الشكل خدم فكرة التنمر التي كان يتعرض لها كمال وأخوه ريمون. شخصية والد كمال الرجل السكير القاسي، ولا أدري لماذا دائماً في الروايات التي شخصياتها تنتمي للديانة المسيحية يظهر الأب السيئ بمظهر السكير! تذكرت وأنا أقرأ حجر السعادة ثلاثية بقايا صور لحنا مينا وشخصية الأب السكير! حتى العجوز الذي تزوج جانيت كان سكيراً قاسياً يضربها!
كذلك وأنا أقرأ تداعى إلى ذهني فيكتور هيغو، البؤساء تحديداً، هناك رابط مؤلم بين البؤساء في كل أنحاء العالم، بين كوزيت وكمال، من فرنسا النابوليونية إلى العراق البعثي ثم الصدامي ثم ما بعد صدام. البؤساء تتشابه ملامحهم الوجدانية.
مشهد غرق ريمون مشهد عظيم، أمتعنا فنياً، وأتعبنا نفسياً، وهنا يظهر الأديب، يؤلمك لكنه يمتعك، يمتعك لكنه يؤلمك!
أشعلت الرواية قنديلاً ليضيء على الأطفال المشردين، والمآلات التي يؤوون إليها بفعل التشرد، والأيدي التي تتلقفهم بحنان ظاهر واستغلال باطن، كما فعل مولانا في الرواية، الذي يُظهر الصلاح والتدين ثم استغل الأطفال ماديا وجنسياً، الأطفال الضحايا لمولانا وأشباهه قد يتحورون مع الزمن إلى مولانا جديد! ومولانا نفسه ربما كان طفلاً بريئاً ذهب ضحية أسرته أو مجتمعه. تحول الإنسان إلى شرير قد يكون لأنه شرير بفطرته، وقد يكون لأنه وقع ضحية ظلم، فاختاره طريق الشر ولم يختره هو.
شخصية الطفل المدعو الزنجيل، تعكس تحور الطفل الفقير بسبب فقره والظلم الذي وقع عليه من المجتمع إلى وحش يمقت الأغنياء، ويتمنى صادقاً لو يجمعهم في حفرة ويحرقهم، هنا الظلم يفرز ظلماً مضاداً، فبيت الزنجيل احترق وهو صغير، ومات أهله حرقاً، فأنقذه أحدهم ليبيعه على صاحب حمَّام! من هنا نشأت رغبته في الإحراق، وبالفعل أحرق بيتاً بعدما سرقه.
هوبي الطفل المسكين الذي يعتدي عليه مولانا جنسياً، يصفه أزهر وصفا بديعا فنياً، مؤلماً إنسانياً وهنا جمال الأدب فيقول: ((كان زر كرامته معطلاً، ويحوز درعاً واقياً ضد الإحساس بالمهانة)).
اشتغل كمال عتالاً وهو طفل، وماسح أحذية. ثم يكون لقاؤه بخليل المصور انعطافة مهمة في حياته، ثم أصبح يشتغل معه مصوراً في الاستوديو. ولا تكتمل الروايات إلا بقصة حب، وكان ذلك مع نادية، والعائق دون إتمامها فقر كمال وديانته المسيحية.
بستان الجن، إيراده يظهر مدى تحكم الخرافات في المجتمع، ومساهمة بعض أئمة وخطباء المساجد الجهلة في تفسير الحوادث تفسيرات خاطئة، ومن ثم اقتناع الناس بآرائهم.
ما بين التقاط كمال للحجر من بستان الجن، وما بين رميه له في دجلة أكثر من خمسين عاماً، مرت فيها أحداث كثيرة على كمال، احتفظ بالحجر لأنه كان إذا خاف، وتلعثم في الكلام، أو شعر برغبة في الانتقام، مضغه فعاد مطمئناً لا يتأتأ، وعاد مسالماً، وهذا في الحياة الواقعية غير منطقي، لكن كتابة الرواية ليست هي كتابة الواقع كما هو، وربما كان الحجر رمزاً لشيء ما. يتقاطع في الرواية الهم العام مع الهم الخاص، وكيف يؤثر ويتأثر كل منهما بالآخر.
عشنا مع الكاتب باستمتاع في فضاءي الرواية الزماني والمكاني، ومن الأوصاف البديعة لبغداد قوله: (( تصطف الجسور على نهر دجلة كأضلاع السمك، وتشد ضفتيه إلى بعضهما، في مشهد يشعرك بأن من بنى هذه المدينة يستهويه منظر العناق)). يا للوصف الساحر! هنا أدب، فلو وصف المشهد صحفي مثلاً لقال: (( بُنيت على نهر دجلة جسور كثيرة)). المعلومة واحدة في كلا القولين، لكن وصف أزهر تبرعم في ذائقتنا وأزهر الجمال!
متحف السلام الذي أقامه فوزي المطبعجي والد نادية لحفظ الصور التي توثق تاريخ بغداد، والتي التقطها خليل المصور، ثم استيلاء السلطات عليه في عهد صدام، ثم المليشيات بعد سقوطه، ونضال نادية التي عادت بعد موت زوجها لاستعادته. أظن أن المتحف كان رمزاً للعراق بأكمله.
طاهر الحنش يمثل رمزاً لقادة الميليشات الذين قتلوا الناس ونهبوا البلد، فهو كان قبل سقوط صدام اسمه طزَّون، وهو عربنجي سكير، جاهل، مجرم، ثم تحول إلى زعيم.
عندما قرر كمال الانتقام من صاحب مكتبة الأضواء الساطعة، الذي حاول قتله بأربع رصاصات نجا منها بأعجوبة، رمى الحجر في دجلة، لأنه وصل إلى قناعة متأخرة أن هذا الحجر هو الذي يخمد رغبته في الانتقام. ويجعله مسالماً، وهذه كانت ميزة يراها للحجر طوال حياته الفائتة، لكنه الآن يراها عيباً وعائقاً يمنعه من أخذ حقه، تغيرت نظرته للأمور، وقرر أن يقتل غريمه الساعة الخامسة فجرا في المطار، قضى الليلة قرب حبيبته نادية، فاستيقظ متأخراً وطائرة غريمه قد أقلعت، فابتسم ولم يغضب، ربما أراد الكاتب هنا انتصار الحب على الرغبة في الانتقام.