حامد أحمد الشريف
في حديثي عن هذا العمل الإبداعي الجميل سأبتعد بداية عن متنه، وأنطلق من الملحق الذي أضافته الكاتبة على النسخة الإلكترونية في عام 2020م. لنعرف من خلاله مقتطفات عن حكاية وتاريخ كتابة هذه الرواية، ومعلومات غاية في الأهمية تمثِّل كاتبتها اليافعة ذات الثمانية عشر عامًا، وهي السن التي يصعب نهوضها بكتابة من هذا النوع إلّا كحالة إبداعية متفرِّدة لا تتكرر كثيرًا. فالعمل الروائي، كما هو معلوم -خلاف الموهبة النسجية والخيال الخصب- يستند إلى خبرات حياتية كبيرة، ومطالعات متعددة تشمل الأدب السردي وغيره من العلوم والمعارف التي لا غنى للكاتب عنها، فضلًا عن القراءات الأدبية لكبار الكتّاب والأدباء التي تضيف إلى إمكاناته اللغوية وأساليبه الكتابية، كذلك تدارسه للنحو والصرف وإلمامه بجميع قواعده، ناهيك عن البلاغة وبديع الكلام التي تفنى الأعمار في تحصيلها، ويأتي بعد ذلك القدرة على توظيف القدرات العقلية العليا، تحليلًا واستنتاجًا ومقارنةً واستشهادًا وإدارةً للصراع، وصنع المفارقات والمفاجآت في السياق السردي، وهي أمور يصعب اجتماعها في مثل هذه السن المبكرة. وغالبًا ما يعتري الكتابات التي من هذا النوع قصورٌ في جانب أو عدة جوانب منها، ولعلّ ذلك ما دفع الكاتبة لوضع هذا الملحق، حتى لا يسنّ النقاد حرابهم ويحاكمون الرواية دون النظر لهذا العامل المهم، مع أنني لم ألحظ ضعفًا يستدعي هذا الايضاح، إذ إننا نتحدّث عن عمل روائي متكامل، مستوفٍ لكامل الشروط والمحدّدات السردية، ولا حاجة بنا للنظر في عمر السارد، فالصراع أُدير بشكل متقَن، والشخصيّات صُنعت بطريقة جميلة، على بساطتها، وكان لها الأبعاد النفسية المطلوبة، وتراءى التباين فيما بينها بشكل جميل، وكانت السمات الخلقية والأخلاقية والسلوكية التي نستند إليها في التفريق بين أبطال العمل، ظاهرة للعيان؛ فمن يطلع على هذا العمل الإبداعي يحب ويكره بعض الشخصيات، ويتفكر أيضًا في بعض المواقف والسلوكيات الجاذبة أو المنفرة، كحديثنا عن «حنة» تلك المرأة المتوحشة بتركيبتها العجيبة، وأبي ناصيف الراعي المتفاني الكريم الخصال والسجايا، كذلك مريم، بطلة هذا العمل التي أدارت معظم صراعاته بشخصيتها التي خُلقت من العدم، وتبلورت بعد فناء عائلتها والمواقف المزلزلة التي تعرضت لها أثناء وبعد هجوم المسلحين على قريتها وإفنائهم أهلها عن بكرة أبيهم، ونجاتها بمعجزة إلهية من بينهم.
لقد جسدت مريم بحق ما يمكن أن تفعله الحروب بعلية القوم وخواصهم، وإن لم تستأثر بكامل السردية وسمحت لباقي الشخصيات بتناوب الحضور بمساحات مختلفة لم يُهمَل أيٌّ منها وإن بالحد الذي ينسجم مع حجم العمل السردي المقرّر من قِبَل كاتبته، أو لنقل، إن كاتبتنا اليافعة قامت بهذه الموازنة المطلوبة في الأعمال السردية المتكاملة.
إن كل ما ذُكر أنفًا -في ظني- قدرات وجماليات وأساسيات تشير إلى قيمة السارد والسردية، وإن كانت هذه السمات لم تكن بالعمق الكبير المطلوب، فإنّ قبولها مقدَّم على رفضها إذا ما علمنا أن الرواية كلها تعد «نوفيلّة» صغيرة لا تتخطى أوراقها المحبّرة 100 صفحة تقريبًا من مجمل أوراق الرواية التي بلغت 142 ورقة من القطع الصغير، ويصعب من خلال هذه الأوراق البسيطة التي رصدت واقعًا زمنيًّا امتد من عام 1976م. حتى عام 1988م. محاكمتها كرواية إذا ما علمنا أننا نتحدث عن أربعة عشر عامًا شهدت أحداثًا جسامًا، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية التي وظفتها الساردة لتسليط الضوء على البُعد الإنساني الذي حملته، وكان له انعكاسٌ كبير على المكوّن الاجتماعي بشتّى فصائله وتحزّباته، وإن كان التبئير هنا قد اقتصر على الطائفة المسيحية، في قرية «الغمر» التي شهدت مجزرةً مروِّعة انطلقت منها الحكاية وانتهت فيها أيضًا، بأبعادها وانعكاساتها الاجتماعية والنفسية والأمنية، وكل ذلك -بالطبع- أدى إلى تسارع الأحداث وصعوبة منحها ما تستحق من توقفات قد تذهب بها بعيدًا عن مغزاها الذي قررته الساردة.
وبالعودة لهذا الملحق الذي من المهمّ أن يطلع عليه القارئ، وكان اختيارًا ذكيًّا جدًّا وضْعُه في النهاية حتى لا تتأثر نظرتنا للعمل من البداية، ونربط تقييماتنا وتفسيراتنا وتأويلاتنا بظروف كتابته؛ وإنما أريد له أن يُستخدم فقط لوضع النقاط على الحروف، وإيجاد المخارج لبعض الملاحظات -إن وُجدت- وترك قبولها من عدمه بيد القارئ. وللحقّ، فأنا قد أُبهرت من تماسك العمل وقيمته على المستوى اللغوي، وأيضًا على مستوى الحبكة والعقدة ومفارقة النهاية، والمفاجآت المرحلية، والتقطيع السردي، والدخول للفصول والخروج منها، ونسق الأحداث وتماسكها وارتباطها رغم انقطاعها السردي، والتفريق بينها خلال تنامي الصراع ووصولها إل ى الذروة، إذا ما قورن كل ذلك بقدرات وإمكانيات شابة صغيرة كانت ستفخر إن كتبت قصة قصيرة واستطاعت التقيُّد باشتراطاتها الإبداعية، فكيف وهي تدوِّن لنا هذه «النوفيلّة» الجميلة التي رغم صغر مساحتها السردية، إلا أنها أتت بالكثير من عناصر الجذب السردي، وأخذتنا معها في ترقُّب النهاية وهي تستخدم «وسام» شقيق «مريم» كعنصر إثارة وتشويق، وتدير السرد حوله، وتجعله يأخذ بأيدينا حتى يوصلنا للنهاية؛ وقدرتها على تمرير قصته في أول صفحات الكتاب بطريقة جميلة لا تشير لتوظيفه في نهايتها، حتى ظننته سقوطًا سرديًّا من الكاتبة بحيث إنها نسيت قصته، لنعود في النهاية ونفهم ما حدث له، وكل ذلك يصب في مصلحة العمل وقدرته على إدارة الصراع بطريقة جميلة لا تخلو من التشويق والاستفزاز القرائي الذي يدفعك للمتابعة، وهي عناصر مهمة قد يُخفق فيها بعض المتمرسين على الكتابة السردية، بينما نجد كاتبة واعدة تنجح في ذلك من خلال هذه المخطوطة الإبداعية الجميلة.
النقطة الأخرى التي أود الحديث عنها تتعلق بالمقدمة التي تواطأ كثير من النقاد على رفضها في الأعمال السردية، أكانت قصة أو رواية، وعدم اعترافهم إلّا بما يخطه كاتبها، مؤمنين أن الأعمال الضعيفة لن يرفع أسهمها من يقدِّم لها، مهما كانت قيمته الأدبية والنقدية، بينما تنهض الإبداعات الحقيقية بنفسها فلا تحتاج من يسندها؛ لا ينفكون عن ذلك رغم اعترافهم بها كعتبة من عتبات النص السردي، والتوقف الإجباري للحديث عنها في قراءتهم للنصوص، وما يدار بالطبع عنها من حوارات يجرِّم بعضها إدراجها في العمل السردي، حتى وإن كانت بقلم السارد نفسه، وحجة من يرفضونها -كما هو معلوم- أن العمل الإبداعي كفيل بتقديم نفسه، ولا حاجة لمن يسوِّق له أو يبرِّر أو يشرح ويوضح مغازيه وأهدافه، أكان صاحب العمل أو من ينوب عنه؛ وأجدني ميالًا لهذه الفكرة التي غالبًا ما يعتريها شيء من المجاملة أو المحبة الشخصية البعيدة عن قيمة العمل الإبداعيّة التي تنعكس على كتابات من هذا النوع، وما يتخللها من ثناء ومديح مبالغ فيه، وتعامٍ عن بعض السلبيات الواضحة، أو محاولة الكاتب نفسه النهوض بعمله ومداراة عيوبه السردية من خلال تقديمه له، ولكن، ورغم كل ذلك الاتفاق والاختلاف وقيمته النقدية، لا تستطيع وأنت تتصفح هذه السردية إلا وأن تتوقف مليًا، وتعيد النظر في كل قناعاتك القبْليّة!
لقد وجدتني على غير المعتاد أعيد قراءة المقدمة أكثر من مرّة وأنا مفتون بها، ولم يعد يعنيني علاقتها بالعمل السردي أو علاقة كاتبها بالساردة، ورفض أو قبول النقاد لها، وموقعي من الجدل الدائر حولها، بقدر اهتمامي بقيمتها اللغوية وعذوبتها وشاعريتها وتصريفاتها الإبداعية؛ فهي قطعة أدبية خلابة تدفعك لتتبُّع كاتبها، ومحاولة الاستزادة من كتاباته الإبداعية، والسؤال بشغف قرائي عنه. وأجمل ما في هذه المقدمة، قدرتها على اجتذابك وتبصيرك بقيمتها الأدبية من أول حرف اختطه. وقد ابتدأ المقدِّم معزوفة مقدمته بهذه الكلمات التي تقطر إبداعًا، وهو يغرينا بقلمه في معرض حديثه عن موهبة الكاتبة مارلين سعادة ابنة الثمانية عشر عامًا التي آمن بموهبتها وتبنّاها، ودفعها لتدوين روايتها الأولى ونشرها، قائلًا:
«تتفّتح البراعم فلا تستأذن أحدًا، تمامًا كما الضوء، ينسّل عبر المنافذ ليهّز غفوة الجفون الذاهبة في غيبوبة الكرى.
تستيقظ الموهبة البكر بعد طول شرود في أثيرها المطلق، وتتطّلع حواليها مستطلعة حائرة ذاهلة، ثم لا تلبث أن تنعتق من إسارها على شكل لوحة أو قصيدة أو أنشودة جمال، فتبحث لها عن متنّفس سعيد يعير زهوها عبق العطر... وتنفتح القارورة وينتشر الشذى».
وقوله: «ونتعرّف إلى موهبة أفلتت من قبضات الريح والمطر لتحطّ على حفافي قرميدنا القرمزي الذي اشتاق إلى عصفورة تشرين تنقر على الشبابيك بخفر دموع الفرح أن استيقظوا، فمواسم البركة لا تزال بألف خير».
وقوله أيضًا: «فيها من عبق الأديبة الناشئة نفَس زكي شذي، وفيها من ملامح الأدباء الكبار ألف ظل وخيال وامتشاق خاطر».
وقوله في خاتمتها التي لا تقل جمالًا وإبداعًا وشاعرية عن بدايتها: «وإلى أن تصحّ المواعيد، وتهدأ السنابل من وهج الانحناء على أكتاف البيادر الذهبية، وترتاح الجداول من الخرير، وتتعب العاصفة من الصفير، نأمل ألا يسأم «خي جيديوس» الانتظار وحيداً على الأرصفة الكالحة، فيرى له إخوة يشاركونه متعة الولادة وسعادة العيد».
يا لها من مقدمة رائعة! تجعلك تتوقف كثيرًا عندها وتعاود قراءتها باستمتاع عجيب، وأنت تغبط كاتبها على ما حباه الإله من قدرة عجيبة على نظم مثل هذا الجمال دون الابتعاد عن المعاني المستهدفة التي كانت نصائح لا علاقة لها بالجمال المدوّن، وكان يمكن توجيهها بعبارات بسيطة ومباشرة من دون إفتان الفتاة بها وإشغالها بجمالها الأخاذ، لولا أن المعلّم أراد بحصافته إهداء تلميذته درسًا في الكتابة الإبداعية تظل تذكره ما امتدت بها الحياة، فما كُتب هنا ليس حبًّا فقط كما يبدو من شاعرية الكلمات المكتوبة واكتنازها بسَيْل من العواطف، وإنّما علمًا بما تتطلبه السردية المتقنة، وما يحتاج إليه السارد؛ وكان فيما قاله «ربابي» أيضًا صدقٌ وإحقاقٌ للحق في وصف هذه الملحمة المختزَلة و»النوفيلّة» العظيمة. ولم يكن محابيًا في وقوعه على مكامن الجمال والإتقان في رواية وُلدت ناضجة مكتملة، ولم تمرّ بالمراحل العمرية التي يفترض مرورها بها، إذا ما نظرنا لخبرة كاتبتها المتواضعة في حينها، فهي -أي الرواية- مَن استمطرت قلمه، وأيقظت حاسّته الشعرية، ودفعته عنوة للكتابة بهذا الإتقان والجمال، ولو لم يكن غير بدايتها محطة تجعله يتيه حبًّا فيها لكفى، عندما تدخل كاتبتنا للسردية من خلال قولها: «ويتسّلل في الظلام شبحٌ صغيرٌ، يُغافل العمال ويصعد إلى صندوق إحدى الشاحنات وقد سُتف بأنواع الخضار... وتنطلق الشاحنّة في الطريق يرافقها البحر بشحوبه وغمغمته، وسائقها يطلق الميجانا والعتابا، ثمّ يتشاغل بالمذياع مقلبًا الموجات... وحين ييأس من إيجاد نغم، يركن إلى مقوده بوجه فيه مسحة غمٍّ وعبوس: فخضارهمُ تباع إلى التّجار بأبخس الأسعار، بينما هؤلاء يبيعونها بأضعاف ما يشترونها، وأرباح المزارع تكاد لا تكفي أجرة للعمّال. وغير ذلك: الأحوال الأمنيّة مترديّة جدًّا، مذابح هنا وقذائف وحروب هناك...
وتعلق الإبرة في النهاية على إحدى الإذاعات: “صباح الخير...”
أي خير، أي بلوط...
“أمنياتنا لكم بتمضية أطيب الأوقات معنا لهذا اليوم، الثالث من تشرين الأوّل 1976...» انتهى سردها.
ونحن نطالع هذه البداية الشاعرية الجزلة الجميلة، لا نُلام إن استوقفتنا ودفعتنا عنوة لتتبُّع كلماتها والانتهاء منها. وهو ما يبرر قدرتها على إبهار كاتب المقدمة المنصف والمعلّم القدير، الذي استوقفته قدرة الكاتبة على فهم وإدراك أهمية البداية في الأعمال السردية، فعمدت إلى صنع هذه المشهدية الرائعة الخالبة للألباب، البعيدة عن أي تكلُّف، رغم قيمتها السردية الوصفية العالية، وعلاقتها الكبيرة بسيرورة الأحداث، واتكائها عليها في إدارة الصراع من بدايته وحتى نهايته، وشعوره أن كل ذلك لم يدفع الكاتبة لإغفال أهميتها كبداية تتطلّب العناية بها، فقدمتها لنا كقطعة جاتوه لذيذة تضمن من خلالها محبتنا للسردية واندفاعنا في قراءتها، وأظنها نجحت في ذلك أيّما نجاح، بداية من المقدِّم الذي فُتن بها واندفع في تسطير مقدمته الرائعة من دون أي تحرُّج، وبإيمان راسخ بقيمة وواقعية كل كلمة دوّنها، وهو ما تحقّق لاحقًا عند وقوفه على مكامن قوة العمل الأخرى، عندما رأى قدرتها على صنع نماذج بشرية مختلفة بكل مكوناتها النفسية والسلوكية، وإظهار تأثُّرها بمحيطها الاجتماعي، وإجادتها في وصف حال البشر وقت السلم والحرب، واجتماعهم جميعًا على السلوكيات ذاتها التي ارتبطت بالمكان أكثر من ارتباطها بالأيديولوجيات والديانات... وهي معانٍ عظيمة أتت عليها هذه السردية وهي تخبرنا عن رجل القرية المسيحية، وتجتهد لإفهامنا أنه لا يختلف كثيرًا عن رجل القرية من أي ديانة أو ملّة أخرى، في طباعه وسلوكياته وتفاعلاته الإنسانية. فالتعاطي مع الأمور الحياتية، حسبما ظهر في ثنايا العمل، يظهر أنه متشابه جدًّا، وأن الاختلاف الحقيقي ينطلق من تأثير الجغرافية بالدرجة الأولى لا الأيديولوجيات، وهو المعنى الذى كرّسته السردية بشكل واضح لا لبس فيه، عند استخدامها للفتاة اللبنانية «هبة» القادمة من فرنسا مع خالها، بظروفها الاجتماعية المختلفة جدًّا، لخلق مفارقة بين أناس القرية بطباعهم البوهيمية، مقارنة بأهل الحضر في تمدُّنهم وسلوكياتهم المختلفة تمامًا، وهو الالتقاء الذي لا أظنه أتى اعتباطًا، وإنما بإرادة من الساردة، لتخلق لنا هذه المفارقة الجميلة، وتوصل رسالتها التي يمكن حصرها -كما أسلفت- في تأثير الجغرافية والمكان بكل مكوِّناته الحضارية والثقافية والعلمية، على السلوكيات الإنسانية، في وقت يقل تأثير الديانات على كامل المشهد، إذا ما نظرنا لها من الناحية السلوكيةوهو ما يقودنا لعمق آخر مهمّ، حملته السردية وكان لافتًا، ولا أظنه إلا واستوقف مقدِّم هذا العمل وكان سببًا في مقطوعته الأدبية الخلابة؛ فكما هو معلوم، إن الحرب اللبنانية إنما اشتعلت واشتد أوارها بسبب التحزبات والتنوعات العرقية والدينية، فالساردة عندما تأخذ بأيدينا لرؤية المشهد متعرّيًا وبعيدًا عن كل هذه العوامل التي وُظِّفت للتفرقة، فإننا نجد أنفسنا نقف أمام إنسان لا يختلف عن باقي البشر المقيمين على هذه الأرض في مشارقها ومغاربها، وكان يمكن جمعهم على أمر سواء لولا توظيف بعض الساسة والمنتفعين لهذا الاختلاف في إشعال نار الحرب والفتنة؛ ولقد أتت بـ»حنة»، تلك المرأة السيئة، باحترافية عالية، لإيصال هذا المعنى، وهي تسند إليها دور إشعال الحرائق والفتن، وتأجيج الرأي العام، ومحاولة استنهاض مكامن الشر في البشر، والعزف على وتر المسلّمات التي يؤمنون بها إن كانوا رجالًا أو نساءً، بما يشبه الأدوار التي يقوم بها قادة الفصائل والأحزاب، باختلاف بسيط، أنّ «حنة» هذه كانت تتصرّف بعفوية، وتُظهر ضغينتها وتحريضها وكذبها وافتراءها على الملأ، بينما القادة يفعلون أكثر من ذلك ولكن بتخطيط مسبق، وبتوظيف للعلم وللقدرات البشرية، ويديرون الصراع من خلف الحجب. ولعلّي أقول هنا، إن الكاتبة وُفِّقت أيّما توفيق في إيصال هذه المعاني لمن يقرأ ما بين السطور، ويستطيع لملمة الإشارات السيميائية لفهم المغازي العميقة التي تريدها.
وكخاتمة لهذه الوقفات غير المقنّنة، يمكننا تكرار ما قاله «ربابي»، إن مثل هذا العمل الإبداعي يشير بوضوح لما تكتنزه كاتبته من موهبة روائية وقدرات سردية، وأنه كان عليها عدم تركه وحيدًا كل هذه السنوات، بل وجب عليها استيلاد أخوة له يؤنسون وحشته ويضيئون سماء المكتبات العربية، طالما أوتيت المقدرة المبكرة على هذه الخروقات الإبداعية.