د. شاهر النهاري
علق الدكتور: محمد بن عبد العزيز الفيصل، في تويتر على مقالي بالجزيرة الثقافية: «صفحة من مذكرات طبيب إسكندرية السبعينات» بقوله: «يكشف هذا المقال حالة من مواضع التماس بين المقالة والسيرة الذاتية، ووفق ما أعرف أن الدكتور شاهر النهاري لم يكتب سيرته الذاتية، فربما يكون هذا المقال وغيره نواة لكتابة سيرته، في قابل الأيام».
وحقيقة أن الرد أشعرني بدوخة، وهمّ! لمجرد التفكير في حمل أمانة أسفار السيرة الذاتية، التي يفترض على الكاتب الأمين فيها أن يفتح غرف قلبه وصماماته، وألا يكحت ما سيعترضه من كولسترول تاجي، وأن يصور واقع الصدمات وتخالف النبضات.
فهل سيخلص البواح للكلمة وحدها إلى حد كيل الحق؟ ويحكي بشفافية عما حصل طوال سنوات عمره غضه وعنفوانه وصلبه من انتصارات وانكسارات، وهل سيقفز على الخطوط الحمراء، والملونة والنقاط القميئة، كونه جزءا من أسرة كبيرة ومجتمع لن يرتضي ذكر أيا من أسرارهم، فالسيرة تعنيهم، وكمجتمعات عربية مسلمة، يسمح فيها فقط بذكر المحاسن، ويستحب المبالغة في التأصيل والتجميل لدرجة التمجيد.
الكاتب العميق الحريص يختلف عن مشاهير مواقع التواصل ممن يستجدون حسنة الشهرة والمشاهدات حتى لو اضطروا إلى خلع برقع الحياء! وفضح خصوصيات بيوتهم، وتحطيم الخطوط المنطقية، وانتهاك خصوصية أسرهم وصغارهم بمغريات الظهور، ولو بدون هدوم.
ثم ماذا عن بقية الحدود والخطوط والسقوف المتهافتة والمتداخلة والقابلة للاشتعال، فهل يمكن للكاتب أن يمرر كبريته وسط ممرات سياسية، وكأنه مدفون تحت ركام بيت تزلزلت أركانه، أو أن يعانق سقوفا دينية مطاطة تتبدل أبعادها وألوانها، وأن يربط رؤوس خطوط اجتماعية متحورة، ويستمر يحكي ويحيك بصنعة محترف ودون الاحتكاك بالمحذور، ومهما دهن جوانب سيارة السرد بزيوت تضمن عدم الخدش، ومهما تمكن من التحكم بالمكابح، منعا للانقلاب رأسا على عقب، أو الاصطدام بصخرة الخوف والسقوط وسط هوة.
السير الذاتية مسؤولية عظيمة، ولا أظن أني قرأت يوما سيرة كاتب عربي أستطيع أن أقول بأنها واقعية أو صادقة، إلا لو تجاوزنا حيثية التجميل، والشطب، والتبرير ونسبيتها، في حكايات هدهدة وتربية ماشية الخيال، بحيث ينصّب الكاتب نفسه بينها راويا عاجيا للحدث، بعد أن يرتدي حذاء سندريلا، وبدلة سوبرمان، وقلب سهم روبن هود، وأن ينقذ كل مسكين، ويضحي بكل ما يملك من أجل مواقف بطولية، ربما تكون حدثت، وربما كان ينظر لها من خلال عدسة مكبرة وسط أوراق مكتبة عتيقة، مغبرة، متمنيا أن تبرق وسط صفحاته.
السيرة الذاتية ورطة الكاتب العربي، والتي غالبا تنتهي بأن يتبوأ مكانة علية في قلوب قرائه المحبين، ولمَ لا، فالشعوب المتحيزة الحالمة تتمنى بل وتشجع المثالية، ولا يهمها كم دس، ولا كم قطع، وجمل، وكم حاول تلبيس قمصان هفواته على صدور أشخاص يختلقهم وسط سيرته، يكملون معه تأدية الأدوار، ويهمون به، ويهم بهم، ودوما هم من يحملون عبء ما يمكن أن يسيء للسيرة.
من لي يا صديقي بكاتب يمكنه أن يذكر عيوبه النفسية، والجسدية والجنسية، ويصالح نرجسيته، وميوله، وتعامله مع الغير بميزان غير ملصوق الذراع، يبديه بعدالة الملائكة؟
من لي بكاتب يمكن أن يحكي عن فكره الشاذ، أو عنصريته، أو عن دوره الحقيقي في تأييد أنماط من الغريب، ببوح لا يدعي النزاهة، ولا ينتظر الفرصة ليذهب إلى الجهة الأخرى من التطرف تشفيًا وانتقامًا، مهما طالته الإغراءات من جهات يهمها أن يكتب سيرة توبته، بما يظهر الندم والترهيب والفهم القويم بعد الشتات؟
من لي بكاتب اقترف جريمة أو فضح مستورًا، أو راعى خداعا بتذاكي، سواء في صغر سنه، أو في ثورة مراهقته، أو في مجالس عزته، وأنه لا ينكر تاريخه، ولا شخوص من شاركوه العمل المشين، لتلتمع مذكراته وتتضح أكثر؟
أين نجد كاتبًا سيرة تمتلك الرؤية والخبرة، ليتحدث عن ذاته، وذوات من شاركوه السيرة، دون أن يعلي بعض المتهافت، ولا يجرح الأعين والقلوب، ولا يخجل من وصف خطواته الحافية وسط استعراض لابسي الأحذية الرفيعة، والراقصة والرياضية والعنيفة، واللزجة؟
السيرة الذاتية رواية، لا يتضح خيالها من زوايا حقيقتها، ولا يتمكن سائر صانعوها من كتابة نوافذ حروفها، فتظل بجدرانها مناطق برد وصقيع، وسراديب مغلقه، وباب مكسور الزجاج، ورياح خريف لا ترحم، وجذوة من النار يحتضر رمادها، بعد أن أحرق الستائر، والمقعد، وحتى عين الفرن.
السيرة الذاتية مسؤولية عظيمة لو حملها ظهر الكاتب الجمل، لأصبح مهدداً بالانزلاق والروماتيزم، ولو علقها على الجدار، فلن يلبث الباب أن يُطرَق، ويأتي جحا، ليطالب بمسماره.
السيرة المعتدلة لا تجذب القارئ، ومن أجل رفع مستوى الإثارة فيها ليضطر الكاتب لبذل مجهود إضافي وفق قوته وحيطته وسلامة أفكاره، وتنازله وتوسطه، وتمويه وجوه من يكونون معه ولو رحلوا، كونه يعرف أنهم يرقبون حروفه، أو أن أحفادهم يفعلون ذلك، وقد يضطر لادعاء موتهم، أو تلبيسهم ثياب غيرهم، أو أن يختلق الجديد، حتى يأخذ كامل راحته بالسرد الحر وكأنه يداعب في الخفاء طعس ربيع ناعم، يزاول فوقه بهلوانية حركاته الطفولية الحرة والمليئة بالخيال، حيث لا وجود لعين ترقب ولا تنتقد.
وفي النهاية أخي د.محمد، فماذا ستكون المحصلة، وهل ستضيف هذه السيرة للحياة والأدب والإبداع أنفاسا جديدة؟ أم أنها ستزاحم المجلدات الحزينة على الرفوف المغبرّة! أو أن يضطر الكاتب لوأد بناته، وإهداء نسخها لكل معارفه، وهو يعرف أن أحدا لا يقرأ، ولا يهتم، إلا من يبحثون له عن زلة!