د.سالم الكتبي
الاجتماع الدولي المهم، الذي استضافته مؤخراً مدينة جدة السعودية لمناقشة أزمة أوكرانيا، كان ترجمة لقناعة سعودية جادة بضرورة البحث عن سبل لتسوية الأزمة الأوكرانية، وقد نجح الاجتماع بالفعل في إطلاق جهد دولي مشترك لبناء أرضية تمهد للسلام، حيث شارك فيه مستشارو الأمن الوطني وممثلون لأكثر من 40 دولة ومنظمة دولية، والجميع يعلم أن الحلول تأتي من خلال الحوار والتعاون وتبادل الآراء والتنسيق والتباحث على المستوى الدولي، حيث استطاعت المملكة العربية السعودية حشد هذا العدد الكبير من ممثلي دول العالم والقوى الكبرى، ووظفت - بذكاء - علاقاتها المتميزة وثقلها الإقليمي والدولي، في حشد العالم من أجل البحث عن مخارج وبدائل للحل من خلال موقف سعودي يتسم بالحياد الإيجابي، القائم على رؤية عقلانية متوازنة تضع مصالح شعوب العالم ودوله فوق كل اعتبار، وتؤمن بأن الأمن والاستقرار العالمي لن يتحقق سوى خلال البحث عن طريق ثالث يشق طريقه بين وجهتي النظر المتصارعتين في أوكرانيا.
ولا يساورني أي شك في أن اجتماع جدة الدولي هو حلقة مهمة للغاية ضمن جهود البحث عن مخرج من هذه المعضلة الدولية الكبرى، ويبدو مستغرباً للغاية أن يتحدث البعض عن عدم توصل الاجتماع إلى تسوية لأزمة معقدة وكبرى كهذه والتي عجزت جميع المؤسسات والقوى والدولية الكبرى عن التعامل معها، بل تحقيق أي اختراق نوعي فيها رغم ما طرح من مبادرات ومقترحات لم يحقق أيٌّ منها أي تقدم يذكر - حتى الآن - ليس بسبب قصور في مضمونها، بقدر ما يتعلق الأمر بمواقف مُسبقة لهذا الطرف أو ذاك.
البحث عن السلام بشكل عام يحتاج إلى رؤية إستراتيجية واعية بحقائق التاريخ تقوم على الصبر والنفس الطويل، لاسيما في مواجهة أزمة جيواستراتيجية معقدة للغاية وتستعصي على الجميع، ويتجه مؤشر التصعيد فيها إلى الارتفاع، ويميل طرفاها إلى خيارات صفرية حادة، تُقصي أي حديث عن الأمل في رؤية ضوء قريب في نهاية النفق الذي اقترب من عامين، والقيادة السعودية تدرك هذه الأمور جيداً، وتدرك كذلك أن الأمر يحتاج إلى جهود دؤوبة ومستمرة من أجل البحث عن طوق إنقاذ للبشرية مما ينتظرها في ظل هذا التصعيد، الذي ينطوي على سيناريوهات خطيرة محتملة بسبب أي سوء فهم أو خطأ في التقدير قد يفتح الباب واسعاً أمام تطورات قد لا يمكن السيطرة عليها ميدانياً قبل سياسياً.
هناك أيضاً نقطة غاية في الأهمية تتعلق بأن القوى الإقليمية والدولية الصاعدة كالهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والمملكة العربية السعودية وتركيا ودولة الإمارات ومصر وغيرها يجب أن تُسمع العالم صوتها، وأن يكون لها موقف إيجابي فعّال تجاه أزمة تؤثر في اقتصادات الجميع، وتفتح الباب أمام سيناريوهات تهدد العالم أجمع، والأمر هنا لا يتعلق بكتلة دولية جديدة ولا تبني وجهة نظر طرف من طرفي الأزمة الأوكرانية، ولكنه مرهون أساساً بمصالح العدد الأكبر من دول العالم وشعوبه التي لا يمكن لها مواصلة الوقوف موقف المتفرج في هذا التوقيت تحديداً.
اجتماع جدة محطة إستراتيجية مهمة تعكس توجهات السعودية الجديدة، وترسخ دوراً دولياً جديداً للمملكة، وتعيد تموضعها كشريك إستراتيجي موثوق للقوى الكبرى جميعها، بغض النظر عن منسوب الصراع والتنافس القائم بين هذه القوى وبعضها البعض، فالدبلوماسية السعودية تدرك جيداً مسؤوليتها الدولية كلاعب ذي ثقل كبير ومؤثر بشكل متزايد في أسواق الطاقة، وتضطلع بدورها انطلاقاً من استشعار هذه المسؤولية وحرصاً على استثمار دورها في ضمان الأمن والاستقرار العالمي، وليس في تحقيق المزيد من المكاسب المالية والاقتصادية.
لاشك أن المملكة العربية السعودية تحظى بأوراق إستراتيجية رابحة في حوارها مع القوى الدولية الكبرى، وتسعى لاستثمار موقعها في تقريب وجهات النظر والبحث عن مخارج للأزمات، وقناعتي، كمراقب، أنها باتت الطرف الأقرب والأكثر موثوقية وقدرة على رأب الفجوات وتجسير الخلافات بين المتصارعين عسكرياً في أوكرانيا، لاسيما أن البديل لمثل هذا الدور البنّاء هو حالة من الفراغ والفوضى العالمية التي تفتح الباب أمام سيناريوهات يصعب توقع مآلاتها ومساراتها.
اجتماع جدة كان أحد المحطات والجهود الدبلوماسية الضرورية التي يحتاجها العالم بشدة بحثاً عن تسوية سياسية لهذه الحرب، ومن يتابع ما يحدث من تطورات ميدانية متسارعة في أزمة أوكرانيا يدرك تماماً أن العالم بحاجة إلى البناء على مخرجات هذا الاجتماع ووجهات النظر المطروحة فيه، وإطلاق المزيد من التحركات والأنشطة الدبلوماسية الفاعلة والعاجلة لعقلنة الأزمة وترشيد المواقف والبحث سريعاً عن أرضية مشتركة للطرفين معاً.