د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
حكاية (1)
لا تبرأُ الكتابةُ عن صديقٍ أو قريبٍ من شبهة مجاملةٍ أو مبالغةٍ أو هوىً بما يُضعفُها، ويشككُ في قيمتِها، ويقللُ من تأثيرها، ولن يبرأَ هذا المقالُ من شيءٍ منها، ولو ادّعى كاتبُه خلوّه وحياديتَه، غير أنَّ ما يستطيعُ تأكيدَه حرصُه على نقل حكاياتٍ تشبه الصورةَ الضوئية عن إنسانٍ لم يعرف الأضواءَ يومًا، ولم يسعَ إليها مطلقًا، وكان بإمكانِه بلوغُ وجاهتها فهو وجيهٌ درج في الوظيفة الحكومية حتى مرتقاها دون مبتغاها، ثم غادرها مبكرًا وفيها لغيرِه مطمحٌ أو مطمع، وعندما عمل لحسابه الخاص اقتطع شطرَ دخله الأكبرَ للعمل الخيريّ مكتفيًا بأقلِّ الأقل؛ فلم يسكن قصرًا، ولم يركبْ فارهًا، وأنفقَ معظم ماله على أعمالٍ للنفع العام لا يعلمُ مقرَّبوه بتفاصيلها وإن أدركوا جانبًا من عناوينها.
إنه الشيخ محمد بن عبدالله السليمان التركي رعاه الله.
* * *
حكاية (2)
بين أسرتينا (العمرو والتركي) وشائجُ صداقة تمتد منذ الأجداد، وتاجُها علاقةُ والده (عبدالله) بجدِّي (علي) رحمهما الله؛ فاتصلت صداقة الراحلَين مع والدي رحمه الله وأولاد العم عبدالله:
«عبدالعزيز» رحمه الله، وكان رئيسَ الشعبة السياسية في الديوان الملكيِّ، و«محمد» – موضوع المقال – وشغل منصب مدير عام مصلحة معاشات التقاعد، و«إبراهيم» الذي أدار مطابعَ الحكومة، وهو شاعرٌ وذو حضور ثقافي، و«علي» وشغل مواقعَ في وزارة المالية، و«أحمد» الذي رأس النادي العربي بعنيزة، حفظهم الله، وأترحمُ على شقيقتهم «نورة» والدة الأخ محمد العبدالله البسام، وكانت لها علاقةٌ بجدتي «لطيفة» رحمها الله ووالدتي «موضي» حفظها الله لتجاورهما في السكن بعنيزة، وكذا مع شقيقتهم» لولوة» أمد الله في عمرها والدة المهندس عبدالرحمن الدخيّل رحمه الله.
* * *
حكاية (3)
تخرج والدي في كلية اللغة العربية بالرياض عام 1385هـ فطلبَ من والدتي إرسالي إليه مع صديقه العم خليف الصالح الخليف رحمه الله على سيارته التي كان يعملُ عليها بين عنيزة والرياض، وليست التجربةُ التي عشتُها في أول زيارةٍ للرياض - رغم اتساع ما وعيتُه منها - ذاتَ شأنٍ بمقدار المنزل الأنيق الذي زرناه في حي الملز بحديقته وأفيائه وجلساته، ولم يكن الصبيُّ قد رأى مثلَه قبلًا؛ فلم تكن خِدماتُ الكهرباء قد دخلت بيوت عنيزة، ولا يوجد بناءٌ منزليٌّ مسلحٌ وفق مدركاته حينها؛ فالبيوتُ طينيةٌ متواضعةٌ، والشوارع ترابيةٌ، والماء من آبار البيوت غالبًا، والنخلة والبقرةُ مكونان رئيسان في بيتنا الملاصق لمنزل الأمير عبدالله الخالد السليم وابنه خالد – عليهما رحمة الله- فيما كان يسمى: «سوق القصر» قرب المجلس والجامع الكبير، وبجوارنا بيوت أسر «البسام والقاضي والسُّلَيم» وغيرِهم ممن يمثلون أعلى الطبقة الوسطى حينها.
* * *
حكاية (4)
تبدلت الدنيا، وحظيت المدينةُ الصغيرةُ مثلَ سواها بمخرجات التنمية، وسكن الفتى الرياضَ طالبًا في الجامعة، مكتفيًا بإجازات الصيف، وما يقتطعه من أيامٍ كلَّ شهر لزيارة والديه، غير أنَّ شغفه الثقافيَّ والإعلاميَّ وصلَه بالأستاذ أحمد التركي فتعاون مع النادي العربي لتقديم احتفالاته كما صنع مع نادي النجمة بقيادة رئيسه الأستاذ صالح الواصل حفظهما الله؛ فجمعت الكلمة ما فرَّقتْه الكُرة، وما تزال ميولُه متعادلةً بين الناديين، وأصبح أبو وليد التركي صديقًا له ففاتحه في موضوع زواجه الذي لم يكن قد فكّر فيه، وعرض عليه أسماءً كريمةً لأُسرٍ عريقةٍ فلم يستجبْ إذ ما يزال معنيًا بدراسته وقربِ ابتعاثه، ثم أخبره عن ابنة أخيه «محمد» فاستعاد صداقة جدِّه ووالدِه بهم، ورأى في مواصفاتِها ما ناسبه، وتذكر مجلس حديقة بيتِ الملز التي لم تغادرْه، ومن غير إطالة تفاصيل اكتملت صداقة جيلٍ سبق بارتباط جيلٍ لحق، وصارت «منيرة بنت محمد العبدالله التركي» زوجتَه، ووالدةَ «هتون وتالا ويزن وشدن» وثلاثةٍ آخرين اختارهم الله قُبيل وبُعيد ولادتهم، ويدعو اللهَ أن يكونوا شافعِين لهما يوم يلقونه.
* * *
حكاية (5)
اقتربتُ من الخال أبي أنس، وألفيتُهُ الرجلَ النبيلَ الأصيلَ الزاهدَ العابدَ المؤْثرَ غيرَ المستأثِر، «ولا أزكي على الله أحدًا»، وعرفتُ - مما سمعتُه ولم يقلْه - إنفاقَه في سبيل الخير حدًا جعله لا يُبقي لنفسه إلا الأقل، وأوقف من ممتلكاته الأنفسَ والأغلى، واعتنى بمشروعات خدمة بيوت الله وعباد الله بما لا أستطيعُ تفصيلَه إذ لا يُعلِنُ ولا يُعلم، وارتبط بعلاقةٍ مع عددٍ من العلماءِ الأجلَّاءِ ورجال الخير الفضلاءِ وظلَّ ذا حظوةٍ لديهم، وعُرضتْ عليه مناصبُ اعتذر عنها، واستمرّ في أعماله الخيريةِ الخاصةِ بخططٍ رسمها بنفسه لنفسه معتمدًا على مرحليةِ التمويل والتنفيذ، ورغم ما ألمَّ به من تعبٍ بدنيٍ بعد أداء عمرةٍ في رمضان قبل الفائت فوهنت عظامُه والتزم السرير منذ شوال 1443هـ فلم يؤثِّر المرض على حيويةِ ذهنه، وتوقدِ ذاكرته، ومتعة جلوسه مع زائريه، ومتابعة مشروعاته الخيرية، وقد خصص يومين كلَّ أسبوع للقاء محبِّيه وعارفي فضله، ويزيدهما لمن يشاء، وكان يشركُهم في اهتماماته؛ فيسأل عن أخبار التمر والمطر، وأخبار الوطن والناس، مثلما يؤرقه وضعُ السودان واللاجئين، ولو وُثّقت سيرتُه لكانت دروسًا، والظنُّ أنها لن تُوثّق؛ فلم يحتفِ يومًا باسمه ولا وسمه، ولم يُدلَّ بتجربته وبذله، وشاء أن يكونَ عملُه خالصًا للهِ وحده، ونسأله تعالى أن يكتب له أجرَ نيته.
* * *
حكاية (6)
لم أجدْ كتابةً عنه إلا ما أورده الشيخ إبراهيم بن محمد الحسون رحمه الله في الجزء الرابع من سيرته (خواطر وذكريات) حيث ترافقا عام 1403هـ في رحلة طويلة إلى فرنسا وإسبانيا والمغرب، وفيه طرائف ومواقف؛ معتمرَيْن شعار: (إذا كنتْ مرافقْ فوافقْ!)، ومنها أنْ طلب أبو أنس التركي أن يصلِّيا في حديقة متفرعة من شارع الشانزيليزيه، وأبدى أبو يوسف الحسون رغبته في الذهاب إلى الفندق للصلاةِ جمعًا وقصرًا، مبررًا ذلك بوجود كلبٍ مخيفٍ قرب الشجرة الضخمة التي فرشا سجادتيهما تحتها، وغلب رأيُ الخال محمد فاصطفّا للصلاة وهو الإمام، وفي سجودهما اقترب الكلب منهما، وكاد يعتدي عليهما، واضطُرَّا لقطع صلاتهما وأدائها حيث يسكنان، وقد وصف الحسون رفيقه باستقامةِ السلوك وطيبةِ القلب، وقال: إنه يُجلُّه ويحترمه طيلة صداقةٍ عمرُها أكثرُ من أربعين عاماً.
حفظ الله الشيخ محمد بن عبدالله السليمان التركي وأطال بقاءه ووقاه ووقاكم كلَّ ضُرٍ وشر.
* * *
(7) الخاتمة
الاقتداءُ توجيهٌ صامت.