عبدالرحمن الحبيب
مرت الجغرافيا السياسية خلال الحرب الباردة بانخفاض في أهميتها المتصورة نتيجة تجميد الحدود السياسية وثبات الإيديولوجيات السياسية، حتى وصفها البروفيسور الجغرافي الأمريكي بريان بيري في عام 1968 بأنها «مياه راكدة هاجعة»، إلى أن بلغنا منتصف السبعينيات فطرح المفكر الجغرافي ريتشارد موير أن الجغرافيا السياسية لم تعد بطة ميتة، ولكنها في الواقع يمكن أن تكون طائر الفينيق (العنقاء).
في وقتنا الحاضر، تمر الجغرافيا السياسية بين حالة البطة الهامدة والفينيق الناهض، حالتان متناقضتان في الحيوية الجيوسياسية يوفرها التقدم التكنولوجي الهائل خاصة في الذكاء الاصطناعي. الحالة الأولى تمثل تطورات العالم الرقمي الذي أزاح حواجزَ واختصر مسافاتٍ، وهمش الحدود السياسية وأضعف جغرافيتها، فالتقدم التكنولوجي يقرب مناطق العالم من بعضها عبر مجالات عدة، مثل الشركات المتعددة الجنسية، ومثل سلاسل التوريد المتشابكة عالمياً حيث تعمل التجارة الإلكترونية البيع والشراء بالتجزئة عبر الإنترنت. على سبيل المثال، يبيع متجر الملابس المنتجات من خلال متجره مباشرة أو عبر موقعه في الإنترنت، أو عبر أي موقع إلكتروني أياً كان الموقع الجغرافي. هذا من الناحية الاقتصادية، كما أن ثمة تقارباً آخر بين مناطق العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الذي يعمل على التعارف بين الثقافات المختلفة.
على النقيض من ذلك ما يُطرح من أن التنافس في التقدم التكنولوجي بين القوى العظمى أو ما أطلق عليه البعض سباق التسلح التقني سيؤجج حمى الجغرافيا السياسية، كما يطرح المؤرخ الاقتصادي كريس ميلر الذي يؤكد أن القوة في العالم الحديث - عسكريًّا واقتصاديًّا وجيوسياسيًّا - مبنية أساسًا على الرقائق أو الشرائح الإلكترونية التي تعتبر «النفط الجديد» في الجغرافيا السياسية، مبررًا ذلك بأن «الصين تنفق الآن أموالًا كل عام في استيراد الرقائق أكثر مما تنفقه على النفط»، وأن «أشباه الموصلات قد حددت العالم الذي نعيش فيه، وحددت شكل السياسة الدولية، وهيكل الاقتصاد العالمي، وتوازن القوة العسكرية.»
ما علاقة الجغرافيا السياسية هنا؟ يوضح ميلر أن تنافس الولايات المتحدة والصين على هذه الرقائق الدقيقة في الصراع على سيادة تايوان كنقطة اشتعال رئيسية اقتصادية وجيوسياسية، وأكثر من ذلك فهي ذات أهمية استراتيجية للأمن القومي، نظرًا لأن تايوان تقوم بتصنيع 37 في المائة من الإمدادات العالمية لهذه الرقائق، وهي أكبر نقاط ضعف الصين الخارجية لأنها تعتمد بشكل أساسي على استيراد الرقائق من الخارج.. وحيث إنها ضمن مدى سهل للصواريخ الصينية، يخشى الغرب أن يكون الحل في متناول اليد.
بالمقابل، بدأت الحكومة الصينية بتشديد إجراءاتها على صادرات مادتين رئيسيتين (الغاليوم والجرمانيوم) تستخدمان في صناعة رقائق الحاسوب، وستُفرض تراخيص خاصة لتصديرهما التي تعد الصين أكبر منتج لهما. ويبدو ذلك ردًّا على الإجراءات الأمريكية لفرض تراخيص على الشركات المصدرة للرقائق، التي تستخدم أدوات أو برامج أمريكية، إلى الصين، بغض النظر عن مكان صنعها بالعالم، وقد انضمت إليها في ذلك دول أخرى من بينها هولندا واليابان.
وإذا كان التقدم التكنولوجي قد قرب مناطق العالم وشكل أكبر روافد العولمة مع الشركات المتعددة الجنسية وتنامي الهجرة، فإنه في نفس الوقت شكل مصدرًا للقلق على الهوية والوظائف في البلد المستقبِل مما يدعم توجهات التيارات القومية والشعبوية المناهضة للعولمة، محاولاً إعادة الجغرافيا السياسية إلى حيويتها السابقة. أضف إلى ذلك التوجه العالمي لحماية الاقتصادات المحلية (الحمائية) المضاد للعولمة، والتركيز على الإنتاج المحلي على حساب التجارة العالمية.
كما تعمل التكنولوجيا على تشكيل السياسة الخارجية من خلال السباق بين الولايات المتحدة والصين على التفوق في الذكاء الاصطناعي، وتأثيره العالمي على الحرب والسلم وعلى العلاقات بين الدول وعلى الشركات المتعددة الجنسية. ترى الباحثة البريطانية إليزابيث براو أنه لا يمكن للشركات تجاهل الجغرافيا السياسية بعد الآن فقد أدت التوترات في مضيق تايوان إلى إيقاظ وحشي للشركات التي اعتقدت أنها تستطيع الاستمرار في العمل في مجال سلمي إلى حدٍّ كبير، موضحة بأن تراجع العولمة يغير سلوك الشركات عندما تبدأ مجالس الإدارة في التفكير باحتمالات الحرب.
إشكالية «سباق تسلح» تقني بين الولايات المتحدة والصين، ينتج عنه تغذية الأجيال القادمة من التكنولوجيا التي جلبت روبوتات المحادثة المتقدمة، والخشية من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستستخدم في السعي وراء النفوذ والهيمنة العالمية، ولا بد من وضع اتفاقيات دولية لحظر عالمي على الأسلحة ذاتية التشغيل المثيرة للجدل والتي تعمل بطاقة الذكاء الاصطناعي، كما يطرح جون نوتن بروفيسور الفهم المعرفي للتكنولوجيا، قائلاً: «الاعتقاد الخاطئ هو أن هناك فائزين واضحون في سباقات التسلّح. وكما أشار سكوت ألكسندر، فإن الانتصارات في مثل هذه السباقات تميل إلى أن تكون عابرة، على الرغم من أن الميزة التكنولوجية قد تكون كافية في بعض الأحيان لترجيح كفة الميزان في الصراع، كما كانت الأسلحة النووية عام 1946. لكن هذا كان وضعاً ثنائياً، حيث إما تمتلك أسلحة نووية أو لا تمتلكها.. لكن ليس هذا هو الحال مع التقنيات الأخرى مثل الكهرباء أو السيارات أو حتى أجهزة الكمبيوتر، ولن يكون هذا هو الحال مع الذكاء العام الاصطناعي، إذا وصلنا إليه».