د. محمد بن إبراهيم الملحم
ها هي المدارس تفتح أبوابها كعادتها السنوية لتستقبل طلابها وطالباتها ومعلميها ومعلماتها، تمثل الدراسة وسيلة ضبط لحياة الناس الاجتماعية، فهي التي تنظم نومهم ليلاً وتنظم روتينهم نهاراً، يبدأ معها الجد والنشاط وينتهي معها (أو يفترض ذلك) اللهو والانطلاق يمينا ويساراً، وهي وسيلة الآباء في ضبط أولادهم وتربيتهم فهي «تمسك» الشباب منهم في البيوت وتساعد على تقليل إزعاج الأطفال منهم من خلال تفريغ طاقتهم في النشاط المدرسي داخل المدرسة ومتطلباتها الدراسية بالمنزل، هذه لمحات من واقع نعيشه جميعاً ونتعامل معه ونشعر به، وأود هنا أن أستشعر معكم مدى تأثير هذه العلاقة الارتباطية بين روتين حياة إنسان اليوم والدراسة على جدية هذا الإنسان مع ذاته وسيطرته على قيادتها، فالمفترض أن كل شخص يصوغ مسار روتينه اليومي بنفسه لا بقوة خارجية عنه كما هو حال أغلب الناس مع هذا العامل الخارجي المسمى «الدراسة» وسيطرته على مسيرة حياتهم وتكييفها بالوضع الذي يفرض ذاته عليهم، والمفترض أيضاً أن الأسرة ككيان اجتماعي أن تكون لديها الآليات التي تمكنها من صناعة الروتين المناسب لكل حالة بما يتلاءم مع مصلحة كل فرد في بناء ذاته والإفادة من وقته، والمفترض أن هناك درجة كافية من الوعي لدى كل فرد بأهمية استثمار وقته سواء مع وجود روتين الدراسة (أو العمل) أو في غيابه، وهذا الوعي هو قضية القضايا وأزمة الأزمات.
بالنسبة للمجتمعات المادية في الغرب فإن طبيعتها التي قوامها رأس المال تحث الفرد على البحث عن مصادر للإنتاجية دون النظر إلى مسألة التغير في روتين الحياة، ولا أظن أن مجتمعنا غداً بعيداً جداً عن هذا الواقع في ظل تنامي احتياجات الفرد المادية وتعقدها مع تناقص فرص زيادة الموارد بسبب ارتفاع التنافسية، ولذلك يجد الفرد منا اليوم نفسه يعيش حالة شبه رأسمالية في كثير من الأحيان، ألا تعتقدوا معي أن هذه الحالة يفترض أن تدفع بمجتمعنا إلى تغيير أنماطه السلوكية والتخلص من عبث روتينه السلبي الاستهلاكي الذي يقوم على التبعية لا على الاستقلالية, ربما أني هنا أفكر بصوت عالٍ في مسألة جدلية نوعاً ما، لكني أعتقد أن الحاجة إلى طفرة تغييرية في المجتمع هي مفتاح لحل مشكلة ترهل جيل كامل، وعندما نتفكر في ذلك «تعليمياً» سيبرز سؤال: كيف يمكن للتعليم أن يسهم في مثل هذه الطفرة الإيجابية؟ هل يمكننا تصور نظام تعليمي يعمل طوال السنة مثلاً؟ ولا زلت أفكر بصوت عالٍ...
أعتقد أن ذلك ممكن في حالة واحدة فقط وهي أن يكون الذهاب للمدرسة أمراً ممتعاً فعلاً، ولعل هذه عجيبة من عجائب الدنيا الخمس عشرة (لأن العجائب مؤخراً زادت عن سبع في تقديري) ولكن كيف يمكن أن تتحقق هذه الصورة الفانتازية, لدي إيمان أنه ممكن وقابل للحدوث ولكني لن أطرق ذلك وسأترك تصوره لخيالكم الواسع مع تأكدي أن كل شخص سيخرج بتصور مختلف عن الآخرين لكنها ستتقاطع جميعاً في نقاط معينة تمثل ركائز أساسية لمثل هذا النموذج الفريد والنادر، فاستمتعوا بالخيال.
**
- مدير عام تعليم سابقاً