جانبي فروقة
خلق المد المتغير للعولمة تحديات كبيرة للاقتصاد الأمريكي، فرغم مساهمة العولمة في البدايات في خفض التكاليف للمنتجات الاستهلاكية ورفع كفاءة الإنتاج والتوسع في أسواق جديدة إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية باتت تنظر لإناء العولمة كخطر وتحد كبيرين على الأمن القومي والملكيات الفكرية وسلاسل التوريد الحيوية، والساسة الأمريكان اليوم يسعون لإعادة كتابة قواعد جديدة للعولمة وحسب مجلة الايكونوميست أزاح الرئيس بايدن مؤخراً عن سلاح جديد من أسلحته في الحرب الاقتصادية بين أمريكا والصين وذلك بسن قانون جديد سيقوم بمراقبة وحظر استثمارات القطاع الخاص ولا سيما في التقنيات الحساسة والتكنولوجيا المتقدمة في الصين وعلقت الإيكونوميست قائلة إن هذا تحول عميق في السياسة الاقتصادية الأمريكية وهي تتربع على عرش الرأسمالية العالمية تجاه الصعود الثابت لمنافسها اللدود الصيني.
كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد بدأ بتوسيع نطاق التعريفات الجمركية وضوابط التصدير الموجهة إلى الصين وبطريقة أو بأخرى تابعت إدارة بايدن السياسات نفسها ولكن لسوء الحظ أصبحت سلاسل التوريد العالمية أكثر تعقيداً وغموضا ودفعت هذه السياسات حلفاء أمريكا للاقتراب أكثر من الصين. وعلى سبيل المثال لا الحصر إذا نظرنا لسلاسل توريد العناصر الأرضية النادرة في الصين (حيث إن هناك 17 عنصراً كيميائياً موجودة في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية - جدول مندلييف الذي يرتب العناصر حسب أوزانها الذرية) تدخل هذه العناصر النادرة اليوم في كل الصناعات العسكرية وأشباه الموصلات والإلكترونيات والطيارات والبطاريات والأجهزة الطبية والسيارات والمفاعلات النووية وغيرها ويكفي أن نعلم أن الطائرة العسكرية الأمريكية الأحدث في العالم إف 35 F تحتوي على 417 كغ من العناصر النادرة التي يأتي أغلبها من الصين. وفي عام 1973م كانت أمريكا متربعة على عرش التوريد للعناصر الأرضية النادرة للعالم حيث كانت لوحدها تستحوذ على 78 % من الإنتاج العالمي للعناصر النادرة واستمرت كذلك حتى منتصف التسعينات حتى بدء صعود التنين الصيني وبناء قدراته في سلاسل توريد العناصر النادرة والتي سميت بالنادرة لا لندرتها ولكن لصعوبة استخراجها من الأرض، حيث تنتشر على نطاق واسع في القشرة الأرضية.
تنقسم سلاسل توريد العناصر النادرة إلى ثلاثة محاور رئيسية وهي التعدين (حيث تسيطر الصين اليوم على 63 % من أنشطة التعدين في العالم) والفصل والمعالجة (و تسيطر الصين على 85 % من أنشطة الفصل والمعالجة في العالم) والتصنيع (وتسطير الصين اليوم على 92 % من إنتاج العالم من المغناطيس).
هناك نتائج عكسية للسياسات الحمائية التي تطبقها أمريكا على الصين فقد لوحظ أن تدفقات الاستثمار بدأت تتكيف مع هذه السياسات ففي عام 2016م استثمرت الشركات الصينية ما يقارب من 48 مليار دولار في أمريكا وبعد ست سنوات تقلص هذا الرقم ليصل إلى 3.1 مليار دولار ونشر صندوق النقد الدولي بحثاً مفاده أن البلدان التي حققت أكبر تقدم في السوق الأمريكية نتيجة سياسة خفض المخاطر خلال الخمس سنوات الأخيرة هي تلك التي لها روابط صناعية أقرب إلى الصين فقد أصبحت سلاسل التوريد معقدة بشكل أكبر والتجارة أكثر تكلفة ولكن هيمنة الصين لم تنقص بل تكيفت مع هذه التغييرات وباتت أكثر قوة. فببساطة ما يحدث أن المنتجات الصينية بات يعاد توضيبها عبر بلد ثالث ويتم شحنها للولايات المتحدة الأمريكية بشهادة منشأ مختلفة في تحايل واضح على التعرفات الجمركية وقد وجدت وزارة التجارة الأمريكية في نهاية 2022م أن أربعة موردين رئيسيين للطاقة الشمسية والمتواجدين في شرق أسيا يقومون بمعالجة ثانوية للمنتجات الصينية، حيث إن المدخلات الصينية في صناعة الطاقة الشمسية يصعب استبدالها ومنها العناصر النادرة. وباتت هذه السياسة قوة دافعة لتعميق الروابط بين الصين والدول الآسيوية التي ترى فرصة كبيرة في لعب دور الوسيط للتمتع بازدهار اقتصادي أقوى يخلق لها وظائف جديدة.
وضحت مجلة الإيكونوميست الدرس المهم للمسؤولين الأمريكيين في مقاربتهم للخطر الصيني بوضع حد للمخاطرة، حيث يقول المسؤولون الأمريكيون إنهم يتوخون الحذر في كيفية بناء آلية السياسات الحمائية مع الصين باستخدام «ساحة صغيرة وسياج عال» ولكن بات واضحاً أنه بالقيود والسياسات الاقتصادية والعقوبات غير الفعَّالة فإن التكاليف قد ارتفعت أكثر والساحة توسعت بشكل أكبر والسياج بات أطول. والنتيجة المقلقة أن مقاربة التخلص من المخاطر لا تجعل العالم أكثر أماناً، بل أكثر خطورة.
علق مرة السير ديفيد فريدريك أتينبورو (مذيع بريطاني وعالم أحياء ومؤرّخ) قائلاً: إذا جمعت في إناء 100 نملة حمراء مع 100 نملة سوداء فلن يحدث أي شيء ولكن بمجرد أن تهز الإناء بعنف سيبدأ النمل بقتل بعضه، حيث سيظن النمل الأحمر أنه يقتل عدوه الأسود والعكس صحيح مع أن العدو الحقيقي هو من هزَّ الإناء بعنف. والسؤال الكبير اليوم هو: من الذي هزَّ إناء العولمة؟
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية