د.عبدالله بن موسى الطاير
تتشكّل الحركات الاجتماعية بشكل عفوي أحياناً، ويتحول السلوك الجماعي في الحشود في الميادين التقليدية أو الافتراضية من حالة عرضية انفعالية عاطفية مندفعة وغير منظمة إلى محركات مستدامة طويلة الأمد للتغيير عندما يحل الارتباط المستمر محل التجمعات الظرفية بين الناس. تتخلق هذه المجموعات لدعم هدف اجتماعي، وعادة ما يكون إما تنفيذاً أو منعاً لتغيير ما في بنية المجتمع أو قيمه. وبغض النظر عن حجم المشاركين في تلك الحركات، فإنها في الأساس تنشأ جراء تواصل عابر بين الأشخاص الذين لا تحدد علاقاتهم قواعد وإجراءات وضوابط تنظيمية، ولكنهم يشتركون فقط في نظرة مشتركة للمجتمع أو القضية.
تاريخياً، كانت الحركات الاجتماعية في كثير من الأحيان بمثابة المحفزات للتغيير العميق، اجتماعياً وسياسياً؛ فمن حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، إلى الربيع العربي، أظهرت هذه الحركات التأثير الذي لا يمكن إنكاره للعمل الجماعي على المشهد السياسي. ورغم أن المتشككين في فعاليتها أو الناظرين إلى أن مجتمعاتهم عصية عليها، ويرفضون التسليم بقوتها، وخطرها، ويعتبرونها انفجارات عابرة من المشاعر، ويمكن استعادة هدوء المجتمع بإجراءات معاكسة تصرف الجماهير ناحية هدف أو قضية أخرى وفي الوقت الذي يريده صنَّاع القرار، إلا أن الفحص الدقيق يكشف أن الحركات الاجتماعية ليست مجرد موجات عابرة؛ فهي متى ما تكونت تصبح أدوات قوية لقيادة التحول السياسي الدائم.
تجسد الحركات الاجتماعية في جوهرها روح المواطنين التشاركية، وتنشأ عندما يتحد الأفراد العاديون حول قضية مشتركة، ويستفيدون من صوتهم الجماعي للمطالبة بالتغيير وبخاصة أن شبكات التواصل الاجتماعي قد وفرت لهم ميادين افتراضية تحقق الحشد واسع النطاق، والتخفي اللازم عن عيون سلطة تطبيق النظام. يتحدى هذا النوع من النشاط الشعبي الأوضاع الراهنة ويضمن منابر لأصوات السكان المهمشين أو المحرومين ليضع صوتهم في مقدمة الخطاب السياسي بدفع القضايا التي تم التغاضي عنها إلى دائرة الضوء، مما يرغم السياسيين على الاعتراف بها ومعالجتها. لنأخذ على سبيل المثال حركة المناخ العالمية؛ فبينما قام النشطاء الشباب مثل غريتا ثونبرج بحشد الملايين في جميع أنحاء العالم، تحول تغير المناخ من كونه مصدر قلق إلى موضوع مركزي في البرامج السياسية. وفجأة، وجد الزعماء السياسيون الذين أبعدوا القضايا البيئية إلى الهامش أنفسهم تحت وطأة الضغوط لحملهم على استنان سياسات هادفة لمكافحة تغير المناخ، وعلى الطريق ذاته تسير الحركات الاجتماعية المهتمة بالمثلية والجندر على مستوى العالم.
واحدة من عوامل قوة خطاب الحركات الاجتماعية تتمثَّل في تضخيم القوة الجماعية للأفراد، واسترعاء انتباه الساسة بأن مسؤوليتهم الأساسية تتلخص في خدمة احتياجات الناس، وليس مصالح قِلة مختارة من النخب الثرية والمؤثرة في صناعة القرار. من خلال تحدي القبضة الخانقة للنخب الراسخة، تعمل الحركات الاجتماعية على قلب الأنظمة السياسية على إيقاع شعارات خالبة تضخ الحماس في ذوي الأفكار الشبيهة فيتحولون تحتها وطأتها إلى قنابل بشرية تعصف باستقرار المجتمعات ووحدتها ونظمها السياسية، ومن أمثل ذلك شعارات الربيع العربي «حرية عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية».
المنظرون للثورات يعتبرون أن الحركات الاجتماعية غالبًا ما تكون ضرورية لتحطيم حالة الرضا التي يمكن أن تتغلغل في المجتمعات والمؤسسات السياسية. ويضربون مثلاً عندما لجأت حركة حق الاقتراع إلى العصيان المدني والاحتجاجات لتأمين حق المرأة في التصويت في أوروبا وأمريكا، وهو التغيير الذي طال انتظاره، ولكنه ظل بعيد المنال حتى دفعت الحركة هذه القضية إلى الواجهة. ومع أن في هذا المثال مغالطة واضحة فهو لتصحيح خطأ داخل الممارسة السياسية باستثناء مكون مهم على أساس نوعه، فإنهم يستفيدون منه في تطبيع التغيير القائم على الثورة. وحتى تبقى جذوة الأمل متقدة فإن الراعون لهذه الحركات والقائمون على تهيئة الظروف المواتية لتكونها يدفعون بأنه وحتى عندما لا تحقق الحركة جميع أهدافها المباشرة، فلا يزال بإمكانها زرع بذور التغيير التي قد تنبت في المستقبل.
الحركات الاجتماعية ليست مجرد هوامش في التاريخ؛ إنها عوامل تغيير قوية، وإنها في عصر التقدم الاتصالي أكثر خطورة، فهي قادرة على تجاوز الحدود واختراق السواتر الأمنية والتغلغل بهدوء وفاعلية إلى مفاصل المجتمعات من خلال توظيف الوسائل الحديثة العابرة للحدود في تحفيز المواطنين، وبث الحياة في القضايا الخاملة، والتحريض على محاسبة من هم في السلطة، والاحتفاء بالحركات الاجتماعية باعتبارها مساهمات لا غنى عنها في حيوية المجتمعات وتغييرها وتطورها، وبتمكين صدى تأثيرهم إلى ما هو أبعد من الشوارع والساحات التقليدية والافتراضية التي يتجمعون فيها، ليكون فيقلب نسيج الخطاب المؤسسي والسياسي.