د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أصدر رئيس الولايات الأمريكية أمراً تنفيذياً بتقييد الاستثمار التقني في الخارج، لبعض المنتجات الحساسة، والتي قد تستخدم في المجال العسكري لبعض الدول التي تراها معادية، أو منافسة، وترى أن ذلك يتعلق بأمنها الوطني. ومن نافلة القول أن ذلك قرار سيادي، لا يمكن لأي دولة الاعتراض عليه، لكن ذلك لا يعني أن القرار صائب بخصوص مفهوم العولمة، وحرية تدفق السلع.
لا أحد يشك أن المستهدف من هذا القرار هو الصين بالدرجة الأولى، وتليها روسيا، لخشية الولايات المتحدة من قوة الصين الاقتصادية القائمة، والعسكرية المتنامية، والسياسية الناعمة، التي لا يرافقها ضجيج الإعلام، وتدفق السلاح، كما أنها تستهدف حرمان روسيا من أي تقنية مفيدة لتطوير سلاحها في ظل الحرب القائمة الآن في أوكرانيا، وما قد يطرأ في المستقبل من صراع محتمل، وإمعاناً في مزيد من العقوبات الكثيرة والقائمة من قبل الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، وما يدور في فلك الغرب مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
قبل أكثر من أربعين عاماً، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستحوذ على خمسين في المائة من إجمالي الإنتاج الوطني العالمي تقريباً، وكان الدب الروسي كما يسمونه غارقًا في الشيوعية والاشتراكية وتحت لوائه عدد من الدول الشرقية مكونين جميعاً الاتحاد السوفيتي المنافس لأمريكا عسكرياً فقط، بينما كان متأخراً جداً في المجال الاقتصادي، في الوقت الذي كان فيه الأسد الصيني في سبات عميق، وكان الغرب وحيداً في الميدان الاقتصادي، وبقية العالم لا حول له ولا قوة، ثورات متتاليه في أمريكا اللاتينيه، وفي إفريقيا، وبعض البلاد العربية والآسيويه، وحروب هنا وهناك.
استشعر الغرب حاجته إلى العولمة، وفتح الأسواق، والعمل على انسياب السلع، وكان على يقين أن ذلك سيعمل على مزيد من النفوذ الاقتصادي، وظهرت اتفاقية مراكش التي حددت إطار منظمة التجارة العالمية لتكون أداة لفك القيود، ومنع الحواجز أو الحد منها، ودخل في ذلك جميع السلع ما عدا النفط لأهميته، وأثره على العالم، وسارت الأمور بشكل متسارع، وهبت الدول للدخول في المنظمة.
في عهد الرئيس نكسون ووزير خارجيته هنري كسنجر، سعيا إلى أمرين أثرا تأثيراً كبيراً في العالم، أولهما دبلوماسية تنس الطاولة التي فتحت الباب إلى ما هو أبعد من مباراة رياضية، حيث أرادت الولايات المتحدة الاستفادة من التغيرات السياسية في الصين، ووصول السيد دينج إلى امتلاك القرار في الصين بفكره الجديد، وكيداً بالاتحاد السوفيتي، ففتحت أبواب العالم للصين، وأصبحت دائمة العضوية في مجلس الأمن تتمتع بحق النقض، وخرجت تايوان من الأمم المتحدة، لكونها جزءًا لا يتجزأ من الصين باعتراف الأمم المتحدة والعالم، وكانت هذه نقلة كبيرة، لكن الصين استغلت الوضع الجديد وسارعت في تغيير شامل في نمط تسيير اقتصادها بما يتوافق مع ما يجري في العالم لكنها بقيت متمسكة بالنموذج السياسي السابق دون تغيير، ولقد رأيت بنفسي في عام ألفين وما بعده عندما كنت أعمل هناك السرعة الفائقة في النمو والتغيير، والذي بلغ نحو ثلاثة عشر في المائة في سنوات متعاقبة، ثم بدأ في التراجع بعد أن اكتملت البنية الأساسية، وخطوة أخرى أحدثها نيكسون، وهي تلك المسماة صدمة نيكسون، حيث ألغى الذهب كغطاء للعملات، وجعل الدولار هو الغطاء الأساسي منطلقاً من ثقة العالم والأسواق بالدولار، وقوة الاقتصاد الأمريكي، مما أزاح الذهب عن مصدر الثقة الوحيد.
ترنح الاتحاد السوفيتي بعد تولي جورباتشوف الحكم، وكان متعلماً قريبًا من الجماهير، لكنه فيما يبدو كان ضعيفاً ليس لدية دراية كافية بالأبعاد السياسية، وما تحمله من خفايا ومخططات ومقاصد، والسياسة تحتاج إلى عمق إستراتيجي، وحساب الخطوات، واتباع فن الممكن دون تفريط، وسرعان ما قفز السيد يلسن إلى الحكم، وينهي الاتحاد السوفيتي بلا ثمن.
لكن الأمور سارت بغير ما كان مأمولاً، فأخذت الصين تزاحم الولايات المتحدة اقتصادياً، ولا تجد بيتاً في العالم الإ وبه منتج ما من الصين، ثم بدأت في تطوير سلاحها ونفذوها الناعم، وكأن ناقوس خطر قد بدأ يطرق أبواب الولايات المتحدة الأمريكية، واتباعها من الدول الغربية ومن يدور في فلكها، فبدأت بخطوات متتالية لمسك لجام الحصان الصيني، حيث سارعت بفرض بعض العقوبات الاقتصادية، على بعض المنتجات الصينية، ووضع قيود جمركية، وهو ما يتناقش مع العولمة التى روجت لها، كما أنها قد أخرجت بعض الشركات الصينية من البورصة، وتريثت في طرح بعض الشركات الصينية الجديدة، ثم جاء القرار الجديد، بتقييد الاستثمار في بعض التقنيات الحساسة، وهو مجال واسع، لا يمك حصره، وقد يمتد إلى منتجات أخرى ليس لها علاقة مباشرة بالنواحي العسكرية، أو تأثير على الأمن الوطني الأمريكي، ولابد أن يكون للصين ردت فعل، وتكون العولمة هي الخاسر الأكبر.