عهود عبدالكريم القرشي
نحن اليوم على موعدٍ لتناول وجبة روائية مميزة، عنوانها «رجل القسطنطينية»، يقدمها مطعم (السيرة الغيرية الروائية)، والذي تفرد بإعداد أطباق سردية غاية في اللذة، وعرضها بشكل ساحر لا يُقاوم. استطاع المؤلف مزج الحقائق الصلبة بماء الخيال وطهيها بشكلٍ يناسب عشاق القصص وكارهي حصص التاريخ. قد يصاب بعضهم بعد التهام صفحات الرواية، بتخمة معلومات تاريخية، حينها يُنصح بشرب كأس من النسيان وعدم التدقيق.
تصور عزيزي الإنسان، أن تكون لديك رفاهية التفرغ في سنوات عمرك الأخيرة، لاستعادة حياتك وكتابتها، كاعتراف كبير قبل حفلة الموت المنتظرة. تصور أنك تمتلك المهارات المطلوبة للكتابة، والحياة الزاخرة بالأسرار، يحثك الخوف من الموت المنتظر خلف باب القدر. حينها ستندلق الكلمات بكثافة وسرعة على الورق. ستكتب سيئاتك وحسناتك وانتصاراتك المشبوهة والنقية! ستكتب عن والدك بأريحية، ولزوجتك بعفوية، ولابنك بحميمية. ستكتب حياتك على شكل وصية غير قابلة للتنفيذ.
هذا ما حصل في رواية «رجل القسطنطينية»، فبينما يصارع الابن خبر وفاة والده، يجد في انتظاره رزمتان من الورق، كتبها المُتوفى في عامه الأخير. وأوصى ألا يقرأها بشرٌ قبل ابنه الوحيد! فأي عزاء هذا الذي تنشغل فيه عن البكاء بقراءة سيرة والدك الروائية؟ وأي نوع من المشاعر سترسلها لوالدك في قبره وفي داخلك تعاطف وحنق وكره وحب ودهشة وتعجب؟
يأخذنا البرتغالي جوزيه دوس سانتيوس -والذي لقبوه بداون براون البرتغال- في رحلة عبر الزمن، حيث نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، لكشف الستار عن حياة التاجر الثري (كالوست كولبنكيان) والذي أسماه في الرواية (كالوست سركيسيان). أما لماذا اختار البرتغالي الكتابة عن الأرمني والغوص في التاريخ العثماني؟ فلعل استقرار كولبنكيان سنواته الأخيرة في لشبونة بالبرتغال هو أحد دوافع سانتوس للكتابة عن هذا الرجل.
سيحكي لنا الطفل الأرمني (كالوست) عن الأحداث العائلية التي دارت في بيتهم، عن شكل الحياة الاجتماعية في حيهم، وعن تعدد الأعراق والأديان والتيارات السياسية في إسطنبول. سيحكي لنا عن الصفقات التجارية التي عقدها والده مع البلاط العثماني، وعن الأحداث الهامة التي هزت كيان الكرة الأرضية، وأيقظت مارد الحرب العالمية.
رواية مشبعة بدهشة البدايات، وحفاوة الاختراعات الجديدة! حيث تأثير الثورة الصناعية، والاكتشافات النفطية على الحياة الاجتماعية في حقبة تاريخية مشوقة.
سنرى كيف تتحول إضاءة المنازل من الشموع إلى مصابيح الكيروسين، ثم للدهشة الكبرى: مصابيح الكهرباء. سنمضي في شوارع تتزاحم فيها عربات تجرها الأحصنة، وعلى ذات الشوارع وبعد سنوات قليلة، سيبدأ « الألمان بصناعة عربات تتحرك دون خيول يسمونها سيارات» وتمضي على «طريق معبد بالإسفلت كمنظر غريب قد يغزو العالم!» سينجح التنقيب عن حقل النفط الأول في العالم، وينجح عمل أول مصعد كهربائي في العالم، كروعة الصعود دون عناء!
سنشهد بدايات العمل على سلسلة فنادق الريتزكارلتون، بل سنلتقي بمالكها وهو في نشوة الشباب ولذة المغامرات وتحقيق الأحلام. بين الصفحات سيمضي بسلام بائع السلاح (تاجر الموت) ومخترع الموت (صاحب نوبل) وسنعلم بموت الملكة فكتوريا، يليها الملك إدوارد السابع، ثم تتويج الملك جورج الخامس، قد نستمع إلى تشرتشل أو ربما رأيناه في إحدى الاجتماعات الوهمية التي جمعته ببطل الرواية.
ورغم سطوة مواضيع الأموال والصفقات التجارية في حنايا الرواية، إلا أن الكاتب نجح في توزيع مواضيع التربية، والمغامرات العاطفية، والاهتمام بالفنون، كجزء لا تخلو منه أي حياة! طعم بأسلوب منمق، عدة مواقف حول إعداد الأجيال لتحمل المصاعب وصناعة المستقبل، وعن إدارة المخاطر التي تبدأ من تهذيب النفس والسيطرة على أطماع الهوى. كما تناول فكرة الاستعانة بالفن والجمال لإكمال رحلة الحياة العملية بشكل يليق بفخامة الإنجاز.
لقد شكلت أساليب التربية، واستعداد الطفل الفطري، والظروف المحيطة بتلك العائلة، أسباباً لنجاح (كالوست) الذي تعلم كيف يعزف على وتر المعرفة، فكانت المعلومات سر قوته، وبها باع واشترى حتى ارتقى. كان سره العظيم هو معرفة المعلومة المناسبة واستخدامها في الوقت والمكان ومع الأشخاص المناسبين. ونجح التاجر الأرمني الصغير ليغدو كبيرا ناجحًا قادرًا على مفاوضة شركات التنقيب عن النفط وكسب الصفقات في كل مرة وبطريقة دبلوماسية ذكية.
تتغير أمواج السرد من فصل لفصل، فبينما يتسارع السرد في الفصول التاريخية، لدرجة لا يملك معها القارئ التوقف للتحقق من صحة الأسماء والأحداث، نجد السرد هادئاً في الفصول الفلسفية حيث يبحر القارئ على قارب التأمل لمفهوم الفن والجمال.
صدرت رواية رجل القسطنطينية عام 2013م، ورغم تأخر الترجمة العربية إلى عام 2021م إلا أن وصولها على يد المترجم سعيد بنعبد الواحد عن المركز الثقافي العربي، كان وصولًا جميلاً. ونحن الآن يحدونا الأمل بترجمة الجزء الثاني «مليونير لشبونة» قريبًا لنتعرف على ما تبقى من سيرة (كالوست)، ونغوص عميقاً في حياة الأرمني: مستر خمسة بالمائة كما هو معروف عالمياً.
«رجل القسطنطينية» رواية أشبه ما تكون بالبحث التاريخي المزدحم بالمعلومات وأسماء الشخصيات، والأحداث المهمة الحقيقية والمُلفقة. رواية اجتمع فيها سياسيون وأثرياء، حقول نفطية وصفقات تجارية، لوحات فنية ورحلات دولية، فنادق وشركات عالمية!
«رجل القسطنطينية» ليست مجرد رواية، وإنما فيلم سينمائي تاريخي يسعى بين السطور.