«الإنجازات العظيمة تسبقها أفكار عظيمة».. يبدو أن هذه المقولة، التي أطلقها المؤلف والكاتب الأمريكي ويلفيرد أ.بيترسون، قبل قرن من الزمان، تتسق تماماً مع ما ننتظره من إنجازات ونجاحات، لا تقل قيمة وأهمية عن فكرة إطلاق «رؤية 2030»، وما تبعها من إنشاء صندوق الاستثمارات العامة، أكبر الصناديق السيادية في العالم.
ولأني أؤمن بتلك المقولة، اعتدت على تبني أفكار حالمة، لعلي أحقق إنجازات كبيرة.. وهو ما اعتمدته منذ وقت ليس ببعيد، حين كنت أتحدى ابني عبدالله كروياً عبر «البلاي ستيشن» ليس طمعاً في فوز، بل عناداً لفكرة عصيان التقنية على مسن مثلي، محاولاً أن أكون أباً متحضراً قادراً على تحقيق مجد خارج الصندوق حتى لو بالقفز على أسوار المنطق.
وبينما يختار عبدالله فريقاً عالمياً كبيراً كريال مدريد، أو برشلونة، أو باريس سان جيرمان، لخوض المباراة، كنت أفضّل اللعب بالأهلي السعودي، بقيادة السومة، أملاً في كسب نصر معنوي، لا يزيد عن صد هجمة من نيمار أو بن زيما، وتصبح فرحتي جنونية حين أسدد هدفاً وحيداً أمام سيل من أهداف عبدالله الذي ذكرني قبل أيام بتلك المباريات التي لم تنته يوماً لصالحي، قائلاً: «بابا البلاي استيشن أصبح الآن مباريات واقعية في دورينا السعودي».
وللحقيقة، جاءت هذه النقلة النوعية متواكبة مع رؤية المملكة، التي تسعى لتحسين كل شيء في حياة المواطن، فأصبح تحويل الدوري السعودي إلى دوري عالمي، حديث المجالس والديوانيات والملتقيات الإلكترونية والبودكاستات والصحف والبرامج التلفزيونية، سعودية وعربية وعالمية.
ولأن ملف الرؤية أكبر وأشمل من أن تستوعبه هذه المساحة، خصوصاً أن كياناً كصندوق الاستثمارات العامة يقف على رأس هرمه ولي العهد سيكون مؤهلاً لتحقيق سقف المعايير المستهدفة بناءً على خطط منهجية ومدروسة.. فدعونا اليوم، نركز على الملف الرياضي.
المعروف أن صندوق الاستثمارات العامة بمثابة الحصان الأسود، حامل راية الرؤية في كل محافل الاستثمارات العالمية، ولنا في تجربة استحواذ الصندوق على نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي مثالاً ناجحاً بامتياز، ففي عام الاستحواذ كان النادي في الترتيب قبل الأخير في الدوري الإنجليزي الممتاز وخلال العام الأول أصبح من أندية الوسط في الدوري الإنجليزي الممتاز، وفي العام التالي مباشرة حل رابعاً في «البريميرليغ» ما أعاده للمنافسة على دوري أبطال أوروبا بعد غياب 20 عاماً.
حديثي عن التسويق الرياضي يعيدني لآخر لقطة في المشهد الرياضي العالمي، حين فازت السعودية على الأرجنتين في كأس العالم الأخيرة، والتي تبعتها دراسة أظهرت، أن النتائج التسويقية للمملكة تخطت كل التخيلات، فلو أطلقت المملكة حملة تسويقية للرياضة السعودية تعادل تحقيقها الفوز على الأرجنتين، لكلفتها ما لا يقل عن 35 مليار دولار.. هل قرأت الرقم جيداً؟
إذن فملف الترويج الرياضي، ناجح بنسبة 100 %، ولو لم تجن المملكة من ملف الاستثمار الرياضي سوى تحويل دورينا إلى العالمية، لكفانا كاقتصاديين، لأننا نعلم أنه يعادل بل ويفوق العوائد المالية بمراحل كبيرة على المدى الطويل.
ومع التأكيد أن صندوق الاستثمارات العامة يستقطب وبشكل محترف أبرز الأسماء في عالم الكرة، أرى ضرورة قرع الجرس لإدارات الأندية التي يساورني قلق تجاه مواكبتها لهذا الفكر الاستثماري بطريقة تجعل تلك التجارب ربحية بامتياز، ناهيك عن العائد التسويقي وراء إبراز اسم المملكة ورياضتها في المحافل الدولية، وهي تجارب ربحية تفتقدها أنديتنا أيضاً.
أغلب الأندية كانت تدفع أرقاماً فلكية للمحترفين، وعند حساب حجم الإيرادات من وراء هذه التعاقدات نجدها أرقاماً مخجلة، ما أدى إلى تضخم المقابل المالي للمحترف السعودي دون أن يؤثر إيجاباً على إيرادات النادي، ربما لغياب الخطط التسويقية المدروسة للاقتراب من نقطة «الصفر التعاقدي»، أي تحقيق حجم إيرادات يغطي حجم المصروفات.
دعونا نسترجع معاً فترة انتقال اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو إلى جوفنتوس الإيطالي، ورغم أني رأيت حينها أنه انتقال (ارتجاعي) لنادٍ يبعد كثيراً عن ريال مدريد، إلا أن إدارته التي وقعت عقد رونالدو بـ13 مليون يورو، حققت بعد 3 أسابيع من التوقيع 5.8 ملايين يورو من بيع تشيرتاته، فخففت عن كاهلها عبء أكثر من نصف قيمة العقد، ووضعت النادي في قائمة أكبر 10 أندية عالمية بيعاً للتشيرتات، بمليون و350 ألف تشيريت، ما يعني أن انضمام رونالدو حقق مكاسب كروية وفنية ومادية، إذ ارتفعت المتابعات بنسبة 68 %، وزادت الإعلانات من 68 مليون يورو إلى 108 ملايين.
وهذا يعني إمكانية نجاح إدارات أنديتنا في الاستثمار الأمثل للمحترفين العالميين، ما يضع المملكة في مصاف الدول العظمى، من جهة الدوري الكروي على أقل تقدير، وبالتالي ستكون الأندية الورقة الرابحة في تعزيز تجربة الاحتراف وجعلها أكثر انتشاراً ونجاحاً.
وحتى لا يخرج علينا أحد «المتشائلين» متحدثاً عن فشل التجربة الصينية في هذا المجال، فدعوني أؤكد أن المقارنة مجحفة، فرغم أن الصينيين أنفقوا مليارات الدولارات على استقطاب لاعبين عالميين، إلا أن الاتحاد الصيني لم يسع للحضور العالمي كما يفعل الاتحاد السعودي، كما أن الكيانات التي أدارت الملف هناك لا تقارن بأي حال بحجم صندوق الاستثمارات السعودي أكبر صندوق سيادي استثماري في العالم، ناهيك عن أن انتقال اللاعب المحترف إلى الصين يخرجه من دائرة الأضواء، بعكس الدوري السعودي الذي يضعه في بؤرة الضوء طوال الوقت، كونه أقوى الدوريات العربية، ويتابعه الملايين في الداخل والخارج، ناهيك عن تردد اللاعبين العالميين على ملاعب السعودية في أوقات مختلفة مثل سانتانا وماراونا.
بعيون المشجع الفخور والاقتصادي المطلع، أرى أن التجربة السعودية قادرة على الوصول للعالمية، إذا نجحت الأندية في إدارة ملف استثمار اللاعبين المحترفين، وأكاد أجزم أنها ستكون أنجح وأهم التجارب في المنطقة والعالم.
وقبل الختام، لاتزال بعض التساؤلات تدور في ذهني:
* هل جهزت الأندية جيداً لهذا الملف التحدي؟
* هل تنظر الأندية للاعبين الذين استقطبتهم نظرة استثمارية، أم أنها مجرد انتقالات للوجاهة؟
* هل سنرى هؤلاء المحترفين يتصدرون الإعلانات التسويقية والترويجية للمملكة بدلاً من مشاهير السوشيال الذين لا يسمنون ولا يغنون من جوع؟
* هل ستحقق الأندية بهؤلاء المحترفين المردود التسويقي والترويجي لملف رؤية 2030؟
* وهل ستنجح الأندية في وضع رياضة المملكة في مصاف الدول العظمى كما تستحق؟
وأخيراً.. يبقى انتظار السعوديين «الحالمين» كما أسميتهم في مقالات سابقة، قائماً بفخر واعتزاز بحجم وطموحات رؤية 2030، آملين أن يتم استثمار ملف الاحتراف الكروي في تحقيق الازدهار والنماء للأندية السعودية دون الاكتفاء بالمكاسب التسويقية التقليدية.
** **
- عماد عسيري