بريدة - خاص بـ«الجزيرة»:
دعا فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار مفوض الإفتاء بمنطقة القصيم الوقوف في وجه الذين اشرأبت أعناقهم للفتيا، وانطلقت ألسنتهم في شريعة الله عز وجل، بالتعريف بهم، وفضح سترهم، والتحذير منهم، حتى لا ينخدع بهم العوام، ويستفيد منهم اللئام.
وقال الشيخ الدكتور عبدالله الطيار في حواره مع «الجزيرة» إن الأمة ابتليت في هذا العصر بتصدر فئات اغترت بالمنصات الاجتماعية والقنوات الفضائية التي أتاحت الكلام لأي أحد؛ فراحوا يخلطون الصحيح بالسقيم، ولايفرقون بين الغث والسمين، ألفاظهم رديئة، وعباراتهم ركيكة، ولايعرف لهم في العلم باع، محذراً من استعمال الرجل لألفاظ الطلاق على أتفه الأمور، وكذلك طلب المرأة الخلع دون حاجة، وبلا موجب، إثم عظيم، وضرره جسيم.
كما تناول الحوار عدداً من الموضوعات المتنوعة، وفيما يلي نص الحوار:
* هناك من ابتلي بكثرة الحلف بالطلاق والتهديد به، على أمور ثانوية تتمثل بدعوة إلى وجبة غذائية وغيرها؛ فكيف يمكن الحد من تلك العادات السيئة في المجتمع؟
* فقد شرع الله عز وجل الزواج بين الرجل والمرأة، وبين أحكامه بيانًا دقيقًا محكمًا، مما يدل على مكانة هذه العلاقة التي أودعها الله عز وجل المودة والرحمة، وأحاطها بسياج من الحدود للحفاظ عليها، ثم بيّن مكانة هذا العقد وأهميته بقوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا النساء: (21).
وأسند الله عز وجل الولاية والقوامة في الزواج للرجل، وأناط به مسؤولية الحفاظ على هذا الميثاق الغليظ، فقال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ النساء: (34)
واستعمال الرجل ألفاظ الطلاق على أتفه الأمور، أو التهديد به في كل وقت، دلالة على ضعف العقل، وقلة الفقه، وغياب الوازع الديني، وعدم إدراك هذا الزوج للمسؤولية المنوطة به، والتساهل بها، ولهذا من العواقب الوخيمة ما لا يخفى على ذي لب.
والمشروع أن يُنصح مثل هذا الرجل، ويؤخذ على يده، ويشدد عليه ممن له قبول عنده، ويُذكّر بالله عز وجل، والمسؤولية التي أناطها الله عز وجل به.
* انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة الخلع للأزواج؛ فما أسباب ذلك؟ وما أثره على الكيانات الأسرية؟
* الخلع هو طلب المرأة مفارقة زوجها مقابل عوض مالي تدفعه لزوجها، فإذا كرهت المرأة زوجها وخافت ألا تقيم حدود الله، شرع حينئذٍ الخلع، بأن ترد عليه ما أعطاها من الصداق ثم يفارقها، والأصل في مشروعيته أنَّ امْرَأَةَ ثابِتِ بنِ قَيْسٍ أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، ثابِتُ بنُ قَيْسٍ، ما أعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولا دِينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإسْلامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وطَلِّقْها تَطْلِيقَةً) أخرجه البخاري (5273).
فالمرأة إذا كرهت زوجها، واستحالت عشرتها معه، جاز لها طلب الخلع لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة: 229) ولحديث امرأة ثابت بن قيس الآنف ذكره.
أما طلب الخلع دون حاجة، وبلا موجب، فهذا إثم عظيم، وضرره جسيم، قال صلى الله عليه وسلم: (المختَلِعاتُ والمنتزعاتُ هنَّ المُنافقاتُ) أخرجه النسائي (3461) وأحمد (9347) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح النسائي (3461)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيُّما امرأةٍ سألت زوجَها طلاقًا في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنةِ) أخرجه أبو داود (2226) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2226).
وما يحدث في بعض البلاد من قلة من النساء اللاتي يوجهن بالمسارعة إلى خلع الزوج، وتشجيع غيرهن على ذلك، إنما هو بسبب غياب الوازع الديني، وقلة فقه المرأة، والتبعية العقلية والفكرية لغير المسلمات من أرباب المناهج الغربية الدخيلة على المجتمعات المسلمة.
والواجب على المرأة المسلمة معرفة قدر الزوج، ومكانة الحياة الزوجية، وفق ما جاءت به النصوص الصحيحة ففي حديث عمة حصين بن محصن أنها قالت: (أتيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في بَعضِ الحاجةِ، فقالَ: أي هذِهِ! أَذاتُ بعلٍ؟ قلتُ: نعَم، قالَ: كيفَ أنتِ لهُ؟ قالَت: ما آلوهُ إلَّا ما عجزتُ عنهُ، قالَ: فانظُري أينَ أنتِ منهُ؟ فإنَّما هوَ جنَّتُكِ ونارُكِ) صححه الألباني في آداب الزفاف (213)، وقال أيضًا: (إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَتْ فرجَها، وأطاعَت زوجَها، قيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ) أخرجه ابن حبان (4163) وصححه الألباني في صحيح الجامع (660).
فالمرأة المسلمة الحصيفة اللبيبة تعرف للزوج قدره، ولا تسير مغمضة العين وراء اللواتي يفسدن عليها زوجها وحياتها واستقرارها.
* يرى البعض أن تصدر غير المؤهلين والمتخصصين في العلوم الشرعية في المشهد وراء ضياع هيبة العلماء؛ فما رأيكم؟
* العلم الشرعي أجلّ العلوم وأشرفها على الإطلاق، لأنه العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته ورسله، وكتبه، ومراده من وحيه، وما خلق الخلائق لأجله، ولذا رفع الله عز وجل مكانة أهل هذا العلم العاملين به بقوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ آل عمران: (18).
والكلام في الدين بغير علم، جرم عظيم، وخرق جسيم، وجرأة على الله عز وجل، قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ النحل: (116)، وقال أيضًا: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ يونس: (59).
وقد ابتليت الأمة الإسلامية في هذا العصر بهذا الداء العضال، الذي يفتك بالأخضر واليابس، فتصدر فئة ممن لا يرجون لله وقارًا، ولا يضعون للعلم اعتبارًا، اغتروا بالمنصات الاجتماعية والقنوات الفضائية المسموعة والمقروءة والتي تبث عبر الأثير، تلك المنصات والقنوات التي أتاحت الكلام لأي أحد، فراحوا يخلطون الصحيح بالسقيم، ولا يفرقون بين الغث والسمين، ألفاظهم رديئة، وعباراتهم ركيكة، فراحوا يبثون الفتاوى، ويطرحون القضايا التي تخدم أفكارهم، وانخدع بهم خلق كثير من المسلمين، لا يُعرف لهم في العلم باع، ولا بين طلبة العلم أتباع، وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَماءِ، حتّى إذا لَمْ يُبْقِ عالِمًا اتَّخَذَ النّاسُ رُؤُوسًا جُهّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا) أخرجه البخاري (100).
قال ابن القيم رحمه الله: (وَلَمَّا كَانَ التَّبْلِيغُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْتَمِدُ الْعِلْمَ بِمَا يُبَلَّغُ، وَالصِّدْقَ فِيهِ، لَمْ تَصْلُحْ مَرْتَبَةُ التَّبْلِيغِ بِالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا إلَّا لِمَنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ؛ فَيَكُونُ عَالِمًا بِمَا يُبَلِّغُ صَادِقًا فِيهِ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، مَرَضِيَّ السِّيرَةِ، عَدْلًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مُتَشَابِهَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَإِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنْ الْمُلُوكِ بِالْمَحِلِّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُ، وَلَا يُجْهَلُ قَدْرُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ، فَكَيْف بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ؟) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 9).
والواجب الوقوف في وجه هؤلاء الذين اشرأبت أعناقهم للفتيا، وانطلقت ألسنتهم في شريعة الله عز وجل، بالتعريف بهم، وفضح سترهم، والتحذير منهم، حتى لا ينخدع بهم العوام، ويستفيد منهم اللئام.
* كيف تنظرون إلى مطالبة بعض الجمعيات النسائية في عالمنا الإسلامي والعربي بالمساواة بين الرجل والمرأة؟ وهل الإسلام يقر هذه المساواة؟
* الإسلام هو دين العدالة، قال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل:90).
والعدالة هي إعطاء كل فرد ما يستحق، وهي لا تقتضي المساواة دائمًا، بل حيث كان العدل في المساواة فإن دين الله يأتي بالتسوية بين الرجل والمرأة، فساوى بينهما في الإيمان والعمل الصالح والثواب عليهما، كما ساوى بينهما في حقوق كثيرة كحق التملك والتعلم وحق التصرف في الملك وغير ذلك من الحقوق، وساوى بينهما في كثير من الواجبات كذلك. وأما ما يوجد من فروق بينهما فهو مما تقتضيه الحكمة الإلهية ولذا قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى (سورة آل عمران: 36)..
والعدالة لا تقتضي أن يستوي الناس في كل شيء، كما هو الحال في الرئيس والمرؤوس والشريف والوضيع، والغني والفقير، والحر والرقيق، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، فتلك فروق جعلها الله بين البشرية، ولا بد أن يبقى لها أثر في الوجود كيفما كان التنظيم المتبع.
* بعد أن انتشرت المواد المخدرة بكل أشكالها، يطالب البعض بتطبيق حد الحرابة على تجار هذه السموم؛ فهل توافقون على ذلك؟
المخدرات شرها عظيم، وفسادها مستطير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (تناول السكر من الخمر والحشيشة يحرم بلا نزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر. والواجب محاربة هذا الداء، لأن فشوها وانتشارها مضرة على المسلمين).
وأما عن تطبيق حد الحرابة في حق مروجيها فهو مشروع، لعموم قوله تعالى في حد المحاربين: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة: 33)، ولا ريب في أن تجارة المخدرات من الإفساد العظيم الداخل في تلك الأنواع من الشر، وقد جاء في فتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية برقم: 138وتاريخ 20/ 6/ 1407هـ ما يلي: (بالنسبة لمهرب المخدرات فإن عقوبته القتل لما يسببه تهريب المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرب نفسه، وأخطار جسيمة، وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها، ويلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج يمون بها المروجين.
والحاصل أنه لا بأس بتطبيق حد الحرابة بقتل تجار المخدرات، بل هو مشروع ليرتدع الناس وينزجروا عن تلك التجارة الخبيثة التي تفسد البلاد والعباد).