تضرب الحجاز مثلاً واضحًا في ذاكرة الحضارة الإنسانية، في هذه البقعة من الأرض، فكان أول بيت وضع للناس، بيت الله الحرام، وحفظت ذات الأرض جملة من الأحداث والمواقف التاريخية التي كان لها تأثيرها الكبير في صفحات التاريخ الإنساني، وكل الشواهد الأثرية في هذه الأرض الطاهرة صفحة مهمة من كتاب الحضارة، وسطر مهم من سطور التاريخ.
إن مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف كان لهذه المدن أعظم أثر في حياة أهل الحجاز الاجتماعية، وأن اختلاط أهل مكة والمدينة والطائف بصنوف من العرب مختلفي اللهجات واللغات في أيام المواسم الدينية والأدبية، وتنقلهم في المدن والأمصار المتمدنة كان لهما تأثير مباشر في تطور حياتهم الفكرية، فاتسعت هذه الحياة، وكون هذا الاتساع ألواناً جديدة من الثقافة البسيطة رحُب معها أفق حياتهم.
الشعر ميزان ثقافة الأمة، وهو دليل حياتها، وهو فن التعبير والجمال، يزدهر إذا تعهدته الفطر القويمة بوسائل الإنعاش، وشعر كل أمة صورة دقيقة لحياتها، ومقياس لتقدمها ورقيها، كما أن الحياة تتقلب في أدوار مختلفة وتحيط بها ملابسات متباينة وتسير طبقاً لسنن الكون في النمو والارتقاء، والذبول والاضمحلال، فكذلك الشعر يزدهر بازدهار الحياة ويذبل بذبولها.
الشعر الحجازي في الجاهلية أن كل قطر من الأقطار العربية كانت له ظروفه الخاصة في بداية القرن التاسع عشر أدركنا إلى أي حد يصعب على مؤرخ الأدب أن يحدد مبدأً عاماً لنهضة الأدب في هذه الأقطار.
لقد أفاد العرب عامة والحجاز وأهله خاصة بما هيأ لشعرهم من الظهور والرجحان على الأدب العربي كله، وإذا استعرضنا الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا اليوم، نجد أكثره بلغة أهل الحجاز، وسواء كان للحجازيين أو لغيرهم، فإن تغلب لغة قريش على غيرها من اللغات العربية، تغلب الشعر الحجازي على غيره من الآداب العربية في العصر الجاهلي.
إن نزول القرآن الكريم بلغة قريش كان دليلاً على ما تم لتلك اللغة من الغلبة والظفر في أحفل عصور الجاهلية، وأن غلبة اللغة تعني غلبة الشعر وبالأحرى غلبة الحياة نفسها، وقد أجمع علماء اللغة على أن قريشاً أفصح العرب، وأن لغتهم أحفل اللغات بالمحاسن والقوة وأخلاها من مستبشع اللهجات، حيث إن الأدب الحجازي في العصر الجاهلي كان جماع حضارة العرب الفكرية، وأنه بلغ من القوة والتفوق ما هيأ له القيادة والسيادة ولا بد أثرهما ماثلاً بين دفات الكتب وآثار ثقافة العرب وتاريخها الناصع.
في فجر القرن الماضي على حين قعدت بغيرها حوادثها عن التقدم فظلت زمناً غير قليل وهي على حالتها الأولى لم تتزحزح عن أفقها العقلي والعلمي الذي درجت عليه وألفته الزمان الطويل، ثم ظهرت عوامل وأسباب للنهوض في الشعر والأدب. بدأ شباب مكة وجدة ممن تعلموا في مدارس الفلاح خاصة يفتحون عيونهم على ما تحفل به الصحف المصرية من نثر وشعر وما تنتجه المطابع العربية من ثمرات القرائح والأفكار لأدباء العرب في مصر وسوريا ولبنان.
ولقد سبق الحجازيون في ألوان جديدة من الفنون والأجناس الأدبية وفي الأغراض الشعرية الجديدة، يصور شعرهم بيئتهم القلقة المضطربة، وأساليبهم في العيش وطرائقهم في التفكير والتعبير، فضلاً عن بلاغته وروعته، يغني شعرهم بالمضامين الحية وبالروح الإيجابية والثورة على الخرافات والأوهام والأوضاع الفاسدة والقيم الموروثة البالية.