رضا إبراهيم
لا شك في أن صفقات الأسلحة عموماً في احتياج دائم إلى تمويلات مالية كبيرة جداً، وتلك التمويلات يمكنها أن تثقل موازنة أي دولة مهما كان حجم دخلها، والتسليح عامةً يعد من أهم المرتكزات الإستراتيجية، التي تعتمد عليها الدول في بناء قدراتها الذاتية لقواتها المسلحة.
وموضوع التسليح يعتمد في حجمه وقدراته وإمكاناته، على عدة عوامل واجبة البحث والدراسة، وبالتالي القرار على حجم التسلح ونوعه ومصادره وتأثيراته، وتشترك بهذه العوامل جوانب كثيرة «سياسية واقتصادية وتاريخية وجغرافية» وإمكانات «بشرية ومادية وحاجات دفاعية», إضافة للمستويات «الحضارية والثقافية والتعليمية» التي يتمتع بها الفرد والمجتمع, الذي سيكون المستخدم لهذا السلاح، مع الإمكانات التقانية والعلمية المتيسرة، ثم العقيدتين القتالية والعسكرية, إضافة للعقيدة السياسية للدولة, لذلك فإن تنوع مصادر التسليح، يُعد عاملاً حاسماً في تأمين بناء القدرات المطلوبة للقوات المسلحة، وضرورة مهمة جداً لاستقرارها.
وترجع احتكارية الغرب في بيع السلاح إلى الدول العربية عامةً، وإلى المملكة العربية السعودية خاصةً إلى زمن بعيد، حيث أكد خبراء غربيون معنيون، على أن جزءاً كبيراً من الصفقات المرتبطة بتصدير بالسلاح أي (حالتي البيع أو الشراء) توجد بها دوماً شروط تمنع أي دولة بيع السلاح الذي حصلت عليه لدولة أخرى، ومن خلال تلك الشروط التي تُقيد صفقات التسلح بالمنطقة، كشف الأرشيف السري الفرنسي منذ عدة سنوات عن نموذج آخر يؤكد تدخل الدول المصدرة، بوضع التصورات والتقديرات المتعلقة بإمكانية، أو حاجة الدول المستوردة لاستعمال تلك الأسلحة أو المعدات العسكرية.
حيث تم الكشف عن وثيقة موجهة في التاسع عشر من أغسطس عام 1955م من داخل السفارة الفرنسية بالعاصمة الأمريكية «واشنطن» إلى وزارة الخارجية الفرنسية بباريس، ونصت الوثيقة على اقتراب وصول الرد الأمريكي خلال أيام، بخصوص تسليم المعدات العسكرية الفرنسية إلى السعودية.
ما يؤكد التذمر الشديد للساسة الأمريكيين من عملية تصدير الأسلحة الفرنسية للسعودية، وهي غير مهيأة لاستعمالها، كما جاء في نص الوثيقة أيضاً بأن الولايات المتحدة لن تبدي موافقتها على تزويد الرياض بطائرات عسكرية، ليس هناك أي داعٍ أبداً لاستخدامها بمنطقة الشرق الأوسط أو الخليج العربي.
ويشير التاريخ إلى أن صفقات التسلح الفرنسية، التي عقدت مع تونس لإحكام السيطرة على منطقة شمال إفريقيا كلها، وإحكام القبضة المفروضة على الجزائر، ومحاصرة المد القومي الذي تنامى هناك، ففي وثائق الاستخبارات الألمانية الغربية في شهر أكتوبر عام 1957م، وُردت رسالة من سفارة ألمانيا الاتحادية في «باريس» إلى وزارة الخارجية الألمانية في «بون» تكشف عن الأسباب التي جعلت حكومة باريس توافق على بيع أسلحة إلى تونس.
ومن بين تلك الأسباب الخوف من نشأة فراغ، يمكن أن يملأه الجزائريون وعناصر سابقة من المقاومة التونسية، ما يعني ضرورة العمل على تقوية الجيش الحكومي التونسي، هذا بجانب اقتراح وزارة الخارجية الفرنسية على شركات إيطالية تصدير أسلحة إلى تونس، وذلك تحت شروط معينة، أهمها أن تكون الأسلحة خفيفة ومميزة بعلامات، حتى يمكن تفادي تهريبها إلى الجزائر.
وفي رسالة أخرى واردة من سفارة ألمانيا الاتحادية في تونس بتاريخ الرابع عشر من نوفمبر عام 1957م لوزارة الخارجية في بون، حملت فحواها عقد سفير فرنسا بتونس لقاءً مع الرئيس الحبيب بورقيبة (1903 - 2000م) حيث أخبره بأن فرنسا على استعداد لتصدير أسلحة ومعدات عسكرية إلى تونس، لكن بشرط أن ترفض الحكومة التونسية عروض صادرات أي أسلحة سواءً من مصر أو الولايات المتحدة، وتشير الوثيقة كذلك أن رئيس الوزراء الفرنسي استدعى في اليوم السابق السفير الأميركي لدى فرنسا، وطالبه بالعدول عن صادرات الأسلحة إلى تونس، لأن ذلك سيؤثر على موقع فرنسا في تلك الدولة.
وبعد مرور عدة عقود زمنية وفيما يخص نفس السياق، قامت الحكومة البريطانية بمراجعة سياستها في بيع الأسلحة، بعد أن حكمت محكمة الاستئناف في شهر يونيو عام 2019م بأن آلية اتخاذ القرار بشأن بيع الأسلحة غير قانونية، لأن الحكومة لم تقم ببذل أي محاولة لتقييم ما إذا كانت هناك انتهاكات خطيرة وقعت في (اليمن) أو دون ذلك، كما قضت نفس المحكمة بأن الحكومة قد خالفت القوانين، لأنها سمحت بتصدير أسلحة إلى المملكة العربية السعودية، يمكن أن تكون قد استخدمت في حرب اليمن، بعد أن أكد ناشطون حقوقيون بأن استخدام الأسلحة ينطوي على الأرجح على انتهاك لقانون حقوق الإنسان، ولم يعن قرار المحكمة أن على بريطانيا وقف صادرات الأسلحة على الفور، لكنه عني تعليق منح التراخيص الجديدة لتصدير الأسلحة إلى المملكة، والتي تعتبر أكبر مستورد للأسلحة البريطانية.
وفي حديث دكتور جورج جوفي أستاذ تاريخ وسياسات الشرق الأوسط والمحاضر بجامعتي «لندن وكمبريدج» أكد صراحةً على أن مدى ضرورة استعمال صفقات بيع السلاح، هو بند يُثار دوماً في المراسلة الخاصة بين الحكومة البريطانية والشركات، وتم الاعتراف في الكثير من الحالات بأن استعمال الأسلحة المباعة قد لا يتناسب مع مصلحة الدول المشترية له، وهذا تصرف نهجي يعود إلى عشرات السنين، ويهدف إلى أمرين لا ثالث لهما، أوله رغبة الحكومة البريطانية بزيادة مبيعات الأسلحة على مستوى العالم، بينما يتمثل الأمر الثاني برغبة العديد من دول الشرق الأوسط، في أن تقوم باستعراض ملكيتها، ومدى قدرتها على التعامل مع أحدث الأسلحة، دون النظر عن حجم أو فائدة تلك الأسلحة لديها.
ومن قبل وفي شهر أكتوبر عام 2018م طلبت وزارة الخارجية الألمانية من كل دول الاتحاد الأوروبي تعليق كل صفقات السلاح مع السعودية، وقد أعادت تلك الوقائع إلى الأذهان الإشكالات المصطنعة التي يمكن أن تنتج عن صفقات التسليح، على غرار ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن نجحت المملكة العربية السعودية وبشكل سري من التعاقد مع الصين الشعبية على شراء صفقة صواريخ (أرض/ أرض) باليستية طويلة المدى من طراز (سي إس إس 2)، مع عدد من منصات إطلاقها المتحركة.
ويجب الإشارة إلى أن تلك الصفقة على وجه الخصوص، وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن عليها أنها لا زالت تشكل أكبر هاجس للغرب عامةً وللإدارة الأمريكية خاصةً، بعد أن رصدت الولايات المتحدة عدة تحولات مهمة بالنسبة للأمن الجيوسياسي الذي يخص السعودية، وقد اعتبرت واشنطن في تلك الفترة أن الصفقة الصاروخية التي عقدتها السعودية مع الصين، تُعد في أساسها خرقاً شديداً لقواعد التبادل العسكري السعودي مع الجانب الأمريكي، بعد أن بات تزويد الرياض بالسلاح من دول أخرى مصدَّرة، أمراً واقعاً وملموساً ولا ريب فيه.
كما أدت ذات الصفقة، إلى إطلاق العنان أمام السعودية للتزود بالسلاح والعتاد من أية جهة أخرى، ومن أية مصادر أخرى مهما كانت وبما يتماشى مع مصلحتها القومية، وفي ظاهر الأمر كانت الولايات المتحدة تؤكد عدم رغبتها في تضخيم حجم نتائج الصفقة عليها، لكن واشنطن في باطن الأمر كانت تمارس سياسة بلغت في ذروتها، حتى وصلت إلى حد الدعوة إلى احتكار أسواق التسلح أمام المملكة.
وذلك ظهر لاحقاً بعد أن نشرت جريدة «نيوزويك» الأمريكية تقريراً في الثاني من إبريل عام 1989م، والذي كشف فضيحة تنحية هيوم هوران السفير الأميركي الذي كان موجوداً بالرياض وقت توقيع الصفقة، حيث يتم إعادة سلفه والتر كاتلر ليعاود مباشرةً أعماله مرة أخرى، ما دفع الإدارة الأمريكية وقتها لتوخي الحيطة والحذر، عند التعامل مع أي متطلبات سعودية تلزم التسلح.
هذا وقد أعلنت فنلندا في الثاني والعشرين من نوفمبر عام 2018م، عن قرارها وقف تصدير الأسلحة والذخائر وأي معدات عسكرية إلى السعودية والإمارات ومصر، وقبيل يومين من ذلك القرار سبق وأن أعلنت الدانمارك عن قرار مشابه في «الشكل والمضمون» لنفس القرار الفنلندي، حيث شمل القرار الدانماركي إيقاف تصدير أية أسلحة أو معدات إلى السعودية والإمارات، ومنها المعدات ذات الاستخدام المزدوج «المدني والعسكري»، حيث جاء تعليل الحكومة الفنلندية بأن قرارها هذا، يأتي للرد على خلفية الوضع المقلق في اليمن، علماً بأن ذلك القرار يبدو أنه قرارٌ (معلبٌ وليس معللاً) في الأساس.
وأكدت وزارة التجارة الخارجية الهولندية، بأنه لن تكون هناك صادرات أسلحة أو معدات من هولندا إلى السعودية والإمارات ومصر، ما لم يثبت أن تلك الأسلحة لم تُستخدم بحرب اليمن، مؤكدةً في ذات الوقت، تشديد حكومتها على شروطها، بخصوص صادرات الأسلحة لمنع استخدامها بحرب اليمن، وأن النظام المقيد لتصدير الأسلحة الذي طبق على السعودية تم توسعته ليشمل كلاً من الإمارات العربية المتحدة ومصر.