د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الطب في عصرنا الحاضر أخذ في الاعتماد تدريجياً على التقنية في تشخيص الداء، وإنتاج الدواء، ولو أن البشرية تتمنى أن يكون بوتيرة أسرع مما هو عليه، ونحن نعلم أن الأبحاث الطبية تحتاج إلى المال والتمويل وتركيز العقول، مثلها مثل أي أبحاث أخرى في المجال الصناعي أو الزراعي، أو غير ذلك، ولنا أن نتخيل لو أن تلك الأموال التي تصرف، وما زالت تصرف في الحروب، والقتل والتعذيب، وجهت إلى المجال الطبي، فلا شك أننا سنرى عالماً آخر أكثر صحة، وأطول عمراً، وأقل صرفاً على العلاج، لكن هذه سنة الحياة، وعلينا أن نعيشها، ولا نقبلها إلا مرغمين، والحقيقة أن الإنسان غريب في طبعه وفكره، يقتل هنا، ويداوي هناك، تناقض يدل على أن الفلسفة الإنسانية في العلاقات الاجتماعية والدولية تحتاج إلى مراجعة عميقة، والخروج من فلسفات كتبت ومورست منذ آلاف السنين، والتي ترتكز على الأنانية المطلقة، والقناعة بتفوق جنس على بني البشر، إلى عالم يتكئ على العدل، والمحبة، والقناعة بتساوي البشر، والاحتكام إلى مكارم الأخلاق، وإرشاد من تسوّل له نفسه الابتعاد عن الطريق السوي، والسؤال الأصعب إجابة، هو ما إذا كان الإنسان من خلال التربية والتعليم يمكن أن تنتزع منه حب السيطرة والتملك التي تؤذي غيره، وهل المؤثّرون في العالم لا سيما السياسيون في الدول الكبرى المؤثّرة، وما وراءهم من مخططين، يستطيعون البدء بأنفسهم قبل غيرهم، ويطبّقون ذلك بترك الحروب، والتسامح مع الشعوب، وتوجيه الموارد إلى قطاعات تنفع البشرية مثل الغذاء والصحة، والنقل والمواصلات، والاتصالات، والخدمات، وغيرها.
في كل فترة من فترات الزمن تظهر قفزات نوعية في المجال الصحي، وقد عايشنا بداية إجراء عملية القلب المفتوح، وزرع الأعضاء، والقسطرة، وفصل السياميين، وتطعيمات لكثير من الأوبئة، وغيرها، وقد لفت نظري ما أقدمت عليه شركة نيورالينك، المملوكة للملياردير وأغنى رجل في العالم، ألن ماسك، والمتمثلة في عمل التجارب على القردة بزراعة شريحة في المخ وربطها بالكمبيوتر لتساعد المصابين ببعض الأمراض التي تحد من الحركة، أو الإبصار، أو غيرها، وقد كانت النتائج مشجعة فقد استطاعت القردة التعامل مع الشريجة بإيجابية دون عوارض ما عدا قرد واحد توفي وهو يحاول التعامل مع لعبة إلكترونية، وما زال البحث جارياً لمعرفة السبب الذي أدى إلى موت القرد، وقد استطاع ألن ماسك جمع تمويل يبلغ نحو مائتين وثمانين مليون دولار لمواصلة البحث، وقد تبدأ التجارب السريرية للبشر بعد ستة أشهر، لكن البعض من الممولين ما زالوا محجمين بسبب الخلفية التجارية لألن ماسك، لكن الحقيقة إن البحث يستحق الإعجاب لما فيه من قفزة علمية رائدة.
والقفازات الطبية التي أحدثها البشر على مر التاريخ طويلة وكثيرة، ومن المعلوم أن الأطباء الأوائل في الحضارات المتعاقبة في الغالب ليسوا أطباء فحسب، بل تتسع معارفهم فهم علماء نفس، وفلسفة، ورياضيات، وفيزياء وكيمياء، ومنهم الأدباء والشعراء، وحتى الوزراء، وعلماء الدين، إضافة إلى أن منهم من يتقن الموسيقى. ونجد ذلك في الحضارة المصرية، واليونانية، والفارسية القديمة، والهندية، والصينية، والإسلامية، مثل الطبيب المصري القديم ايمحوتب، والإغريقي سقراط، وجالينوس، وهيروفيلوس، وفي العصر الإسلامي ابن سينا، جابر ابن حيان، وموسى بن ميمون اليهودي الديانة، وابن الخطيب، وأبوبكر الرازي، وسنقف قليلاً عند أفكار الرازي.
أبو بكر الرازي الطبيب، والفيلسوف وصاحب كتاب الحاوي في الطب والتداوي، وهو أحد كتبه الكثيرة وينقسم إلى قسمين أحدهما في الطب والآخر في علم النفس. أبوبكر الرازي ولد في منتصف القرن الثالث، وعاش حتى بداية القرن الرابع، ولد في الري بفارس ودرس في بغداد، وتعلّم في صباه الموسيقى، وغيرها من العلوم، لكنه انصرف إلى علم الكيمياء والطب والفلسفة، وهو قارئ نهم شديد الذكاء، ميسور الحال، عطوف على الفقراء يعالجهم بلا أجر، ولديه نزعة إنسانية، استدعاه منصور بن نوح الساماني حاكم الري، وترأس المارستان أي المستشفى هناك، وله كتاب قيم في الجدري والحصبة، وهو يعتمد على التجربة في الكيمياء والطب، وليس على البراهين، وهذا في رأيي عين الصواب.
بالغ في اعتماده على العقل في كل شيء حتى إنه اتهم في عقيدته، وقد نسب إليه قول لا أحمل وزره بنقله، ويقول صاحب كتاب نكت الهميان، أن أصابته بالعمى بسبب تأليفه كتاباً في الكيمياء لمنصور بن نوح، فأعجبه ووصله بألف دينار، وقال له أريد أن تخرج ما كتبت إلى الفعل، فقال إن ذلك يحتاج إلى مؤن وآلات وعقاقير صحيحة، وأحكام صنعه، فقال له منصور كل ما تريده أوفره لك، وأحضره إليك، فلما وجده عاجزاً عن مباشرة العمل، قال له ما أحسب أن حكيماً يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب الناس، ويتعبهم بلا فائدة، وألف دينار لك صدقة، ولا بد من معاقبتك، فضربه بالكتاب على رأسه إلى أن يتقطع، وهذا سبب نزول الماء إلى عينيه، والحديث طويل ولكن سأختم ببيتين قالها نقلها صاحب كتب الهميان، إن صحت، فيعني أن لديه ما يريب، يقول:
لعمري ما أدري وقد أذن السبلى
بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه
من الهيكل المنحل والجسد البالي
وقد رد المؤلف ببيتين يذكر أن مصيره إلى جنة الخلد إن كان خيراً، أو إلى نقيضها إذا كان شريراً.