د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ليس ما تراه من جناس وطباق في هذا العنوان من قبيل الزخرف اللفظي بل هو عنوان يزوي قضية مهمة أبدع معالجتها العلامة القدير أستاذنا الدكتور سعد بن عبدالعزيز مصلوح، ويبين العنوان الشارح للكتاب أنه (رسالة في بلاغة التشكيل الصوتي للتفعيلة العروضية)، وهي رسالة قليلة الورَق ثقيلة ثقل الورِق، وهي قضية أهمت صاحبها منذ عرف الشعر، وهو الشاعر بن الشاعر، وهي أنى يكون للبحر الشعري الواحد عند الشاعر الواحد أو عند أكثر من شاعر أن يتصدى للعبارة بكفاية واقتدار عن تجارب إنسانية متباعدة ومتشاكسة، بما تتحقق به لذة الاستجابة ومتعة التلقي؟
ويضرب لنا مثالين، فهذه قصيدة لأبي صخر الهذلي في الغزل، جاء فيها:
عَجِبْتُ لِسَعي الدّهر بيني وبينها ... فَلمّا انقضى ما بيننا سكَن الدهرُ
فيا حُبَّها زِدْني جوًى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدُك الحشْرُ
ويقول أبو تمام في الرثاء:
كذا فليجلَّ الخطب وليفدحِ الأمر...فليس لعين لم يفضْ ماؤها عُذرُ
فتًى مات بين الطعن والضرب مِيتة... تقوم مقامَ النصْر؛ إذ فاته النصرُ
القصيدتان من بحر الطويل ورويهما راءٌ مضمومة، وهذا هو الإيقاع الثابت، فمن أين يأتي التغير الذي هو (الوقع)؟ إنه يأتي من محتوى القالب الثابت ذلك المحتوى المتغير بأصواته صوامته وحركاته وأجناس كل ذلك.
استعان أستاذنا لمعالجة هذه المسألة بعلوم متضافرة: العروض والبلاغة والأصوات، وكان أن زويت له هذه العلوم حتى جلّى فيها علمًا وتعليمًا.
جاءت هذه الرسالة في سبعة مباحث، جعل الأول تمهيدًا يشرح فيه الفرق بين ما سماه إيقاعًا وما سماه وقعًا، وهو ما ينال السامع فيرضى ويطرب أو ينفر ويعرض، وبيّن الأستاذ أهم ما يفرق بين الإيقاع والوقع، وندرك من ذلك أن الإيقاع عام مشترك وأن الوقع خاص يتنافس فيه الشعراء كلٌّ بحسب عبقريته وثقافته اللغوية والمعرفية وموهبته الخاصة، وأما المبحث الثاني فيقود القارئ برفق وأناة إلى معرفة الأصل المعني بالمعالجة وهو الصوت، فالشعر في المقام الأول لغة، واللغة صوت، ولذا يشرح الأستاذ المعنى الفيزيائي للصوت، وهو حركة جسم في وسط ناقل للحركة بما يسمى موجات، ويشرح بدقة وسهولة أجزاء الجهاز الصوتي للإنسان ابتداء من الرئة التي تدفع الهواء فتضطرب الحبال الصوتية، وتواصل موجات حركتها في عمود الهواء حتى الشفتين، وفي مجرى الهواء جملة مناطق لحبس الصوت أو تضييق مجراه وللسان كيفيات بها تتغير غرفة الرنين، ولانفتاح الأنف أو إقفاله أثر في الصوت، وتتضافر جملة من الصفات والمخارج التي تضمن لكل صوت تميزه السمعي، وكلَّ ذلك يشرحه الأستاذ بدقة واختصار مبين، ولكن معرفتنا لهذا التمايز الصوتي لا تكفي، فيأتي المطلب الثالث المبين للسلم التراتبي النغمي لصوتيمات العربية [الحروف والحركات]، وهو سلم يتألف من عشر درجات، أولها الألف المدية أي الفتحة الطويلة وآخرها وقفيات مهموسة (همزة القطع والتاء والطاء والكاف والقاف)، ويقصد بـ(الطاء) الطاء المعاصرة لا التراثية المجهورة، وإذ فرغ من تقرير ذلك كلّه انتقل إلى تفصيل (تنوع الوقع)، وهو موضوع المطلب الرابع، وفيه يبين أن منها ما هو وقع ناعم ومنها ما هو وقع جاس، ويختم بما سماه تجليات السلم العشري في مسائل الرويّ، وهو تفسير لبعض ما وصفت به بعض أحرف الروي من صفات كالقوافي النفر والحوش والذّلل، وفي المبحث الخامس وهو (بلاغة الأنساق في التشكيل الصوتي) وأجملها في ثلاثة مظاهر المطابقة والمقاربة والمعاقبة، وهو يشير إلى جهود القدماء في بيان أنواع الجناس والطباق، وأما المبحث السادس فجعله لخصائص الصوامت العربية من منظور نطقي وهو بيان لمخارج الأصوات وصفاتها، وأظن أن هذا المبحث كان يمكن أن يلي الحديث عن الصوت والجهاز النطقي، أما المبحث السابع فهو مبحث تطبيقي بيّن فيه أن المطابقة في الإيقاع لا تلزم منها المطابقة بالوقع، وتوسل لبيان ذلك برسوم بيانية تفصيلية بالتفاعيل وموقع الأصوات فيها من السلم العري.
لا جدال في أن هذا العمل رائد جدير بالتأمل والمتابعة والاختبار، ولعل من له بصر بالعروض والصوتيات والبلاغة يخوض في هذا المجال، أما أنا فأقول إن طائفة من جوانب الموضوع غمضت عليّ، ولم أحسن فهمها؛ لقصور مداركي عنها ولقلة حظي من المنابع التي تعود إليها، ولذلك لا أجد جوابًا صريحًا شافيًا للنفس عن السؤال الذي أثار هذه المسألة.
****--****--****--****--****
(1) نشر كتاب دار الكاتب (ثابت الإيقاع متنوع الوقع: رسالة في بلاغة التشكيل الصوتي للتفعيلة العروضية)، القاهرة، ط1، 2023م.