أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
لعلك لا تجد أحذق من (أبي نواس) في تصوير (الكلاب)؛ وكان، كما يذكر (الجاحظ)(1)، «قد لعب بالكلاب زمانًا، وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب.» وله في ذلك أراجيز استشهد منها (الجاحظ)(2) بعشر، كلها تدل على تمام معرفته بهذا الحيوان. يقول في إحدى طردياته(3):
أعددت كلبًا للطراد سلطا
مقلدًا قلائدًا ومقطا
فهو النجيب والحسيب رهطا
ترى له خطين: خطا خطا
ويصور طول جسمه، ورشاقته، ولينه، وسباطة لحيه، مشبهًا متنيه، إذا تمطى، بشراكين من أدم، فيقول:
وملطًا سهلًا ولـحيًا سبطا
ذاك ومتنين إذا تـمطى
قلت: شراكان أجيدا قطا
من أدم الطائف عطا عطا
كما يرسم حركة رجليه السريعتين، كأنما يعجلن شيئًا لقطًا. ويصور ما يلقاه منه الصيد. واختيار الشاعر وزن (الرجز) في طردياته قد زادها طاقةً تصويرية؛ بما لهذا البحر من خفة، حتى ليكاد القارئ يشهد حركة (الكلب) من خلالها. مع (الطاء) في الروي، وما تضفيه من إيحاء حركي، تزيده ألف الإطلاق في آخر القافية اندفاعًا، يمثل في الصورة تدفق حركة الكلب. ويعنى في صور أخرى بوصف أدب (الكلب) وحسن تربيته، كما في تصويره كلبًا اسمه (زنبور)(4). وفي نص آخر يفتن في تصوير شيات (الكلاب).(5) وقد كانت عناية العرب بـ(كلاب الصيد) معروفة، حتى إن لها أنسابًا وأسماء وعلامات، كما (للخيل) عندهم.(6) وفي صورة أخرى يشبه (أبو نواس)(7) التماع عيني (الكلب) الحمراوين بفصي عقيق، فيقول:
كأن عينيه لدى ارتيابه
فصا عقيق قد تقابلا به
وهي صورة تتكرر عند الشعراء، في تصويرهم تحفز (الكلاب) للصيد. كقول الآخر:
مجزعة غضف كأن عيونها
إذا آذن القناص بالصيد عضرس(8)
وكل هذه الصور، التي يحاول (أبو نواس) استقصاء جماليات (الكلب) بها، جماعها: معنى الخفة والجرأة. هذا المعنى الذي كان وراء تصوير الشعراء (الذئب) أيضًا وإعجابهم به. مهتمًا في ذلك بتوافق أجزاء الصورة، وتناسبها، وتوازنها، بحيث تعبر في النهاية عن معناه. ولهذه القيمة الجمالية أحبوا تشبيه خيلهم بالكلب السلوقي الضاري الأجرد، تمامًا كما فعلوا في تصوير الذئب. فقال (ابن مقبل)(9)، مثلًا- مهددًا خصومه، ضاربًا الكلاب مثلًا للمضاء في حربهم:
فإنا سنبكيه بجرد كأنها
ضراء دعاها من سلوق مكلب
فجماليات (الكلب) في شعرهم، إذن، ليست بشكلية حسية بمقدار ما هي معنوية، وإنما يوظف الشكل في خدمة تلك الجماليات. وكذلك فإن مقابحه عندهم ليست بشكلية حسية بمقدار ما هي معنوية، وقد يوظف الشكل في تصويرها. لأجل ذلك فإن (ابن الرومي)، في مقارنته بين مهجوه و(الكلب)، لم يذكر من مقابح الكلب الشكلية سوى طول الوجه، الذي قد يتضمن دلالات معنوية، غير قبح الهيئة. بل لعل الشاعر لم يهتم بطول الوجه هناك إلا من حيث إيحائه بالدناءة واللؤم والخسة. أما صفات القبح المعنوية، فهي: عدم الحياء، والعي، والتعدي، والغلول:
وجهك، يا عمرو، فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
فأين منك الحياء؟! قل لـي
يا كلب! والكلب لا يقول
والكلب من شأنه التعدي
والكلب من شأنه الغلول(10)
على أن (الكلب) قد تزول عنه معايبه، ولا تزول عن هذا المهجو:
مقابح الكلب فيك طرًا
يزول عنها ولا تزول(11)
وليس كل ما في الكلب قبيحًا، بل فيه: الوفاء، وأمانة الحراسة، والمحاماة:
وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول
والكلب واف وفيك غدر
ففيك عن قدره سفول
وقد يحامي عن المواشي
وما تحامي ولا تصول(12)
وقد اتخذ (أبو نواس) من سباطة لحي (الكلب) عنصرًا جماليًا شكليًا، في حين اتخذها (ابن الرومي) على العكس؛ مما يؤكد القول بأن طول الوجه في كلب ابن الرومي رمز، أكثر مما هو معبر شكلي في لوحته الشعرية. ولذلك أيضًا جاء هذا الربط بين عدم الحياء وطول الوجه: «وجهك... فيه طول.. فأين منك الحياء؟!»، كأنما ذاك يدل على هذا ويوحي به.
وجماليات تصوير (الكلب) عند (ابن الرومي) تتمثل في الموازنة بين الكلب والإنسان المهجو من جهة، ثم بين صفات الحسن والقبح في الكلب من جهة أخرى. بحيث أضاء زوايا متضادة، أو متفقة متوادة، بين طرفي الصورة: «وبضدها تتبين الأشياء». إضافةً إلى هذا الإيقاع المعنوي العميق، والسجال الجدلي المحتدم بين شقين، مرتبطين منفصلين، مما يولد إيقاعًا ذهنيًا متجاوب الاهتزاز في تلقي الصورة. وهذه الموسيقى الداخلية- القائمة على التكنيك الفني، المرتكز على إمكانيـتي الالتقاء والافتراق، والاتحاد والتضاد- قد أكسبت الأبيات حيويتها الخاصة، ومنحت الصورة تأثيرها الفعال، في كـل توحدت فيه المتناقضات.
[للحديث بقية].
****--****--****--****--****
(1) (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، (مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 27.
(2) ينظر: م.ن، 2: 27- 69.
(3) أبو نواس، (1982)، ديوان أبي نواس، تحقيق: أحمد عبدالمجيد الغزالي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 627.
(4) ينظر: م.ن، 633، والجاحظ، م.ن، 2: 30- 31.
(5) ينظر: م.ن، 628- 629، والجاحظ، م.ن، 2: 37- 39.
(6) وينظر مثلًا: كشاجم، (د.ت)، المصايد والمطارد، تحقيق: محمد أسعد أطلس، (بغداد: دار المعرفة) ، 131- 142.
(7) ينظر: الجاحظ، م.ن، 2: 41. ولم يرد البيتان ضمن أبيات قصيدته في الديوان: 631.
(8) ينظر: الجاحظ، م.ن، 2: 201؛ ابن منظور، لسان العرب، (عضرس).
(9) (1962)، ديوان ابن مقبل، تحقيق: عزة حسن، (دمشق: مديرية إحياء التراث القديم) ، 16/12.
(10) ابن الرومي، (2002)، ديوان ابن الرومي، شرح: أحمد حسن بسج، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 3: 139. وينظر: جيدة، عبدالحميد محمد، (1974)، الهجاء عند ابن الرومي، (بيروت: مكتبة الحياة)، 376.
جدير بالإشارة هنا أنها كانت للهجاء، كما للمديح- على بعض مقابحهما الأخلاقية وابتذالهما الوظيفة الأدبية- وظيفة قيمية مهمة في المجتمع العربي، من لـز الناس، ولاسيما الكبراء، على التحلي بحسن المعاملة، وبذل الأموال، وإن سياسةً، رغبةً في الصيت، من خلال الإعلام الشعري الدعائي، ورهبةً من أن يسلقهم الشعراء بألسنة حداد.
(11) ابن الرومي، م.ن.
(12) م.ن.
** **
(رئيس الشؤون الثقافية والإعلامية بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة الملك سعود)